من الكاريزمية إلى “العِصمة”: الشعبوية في العالم العربي/الإسلامي ما قبل “الثورات”(1)


ما هو القاسم المشترك بين ساسة وقادة من مشارب مختلفة أمثالَ جمال عبد الناصر و أحمد بنبلة والهواري بومدين ومعمر القذافي والإمام الخميني وصدام حسين؟ الجواب هو أنهم قادوا ثورات أو انتفاضات أو حركات أو حروب باسم “الشعب” أو “الجماهير الشعبية”، وتبنوا طرقا ثالثة (لا شرقية ولا غربية) مثل “الاشتراكية العربية” أو “الطريق الثالث” سرعان ما باءت بالفشل لعدم واقعيتها، و تبنوا فكرة “أكباش فداء” هم “الرجعية العربية” و”الإمبريالية” المتواطئتين ضد مصالح العروبة والإسلام…هل هذا يعني أنهم شعبويون؟ ربما ولكن الأمرَ أعقدُ مما قد يبدو لنا من خلال تحليل متأنٍّ لخطاباتهم وإيديولوجياتهم.

هؤلاء القادة (باستثناء بومدين وصدام حسين) كانوا إما السبب في خروج الاستعمار أو إسقاط أنظمة لا شعبية أو هما معًا كما هو الحال مع عبد الناصر. لهذا فهم لم يبْنوا مشروعيتهم على شعارات جوفاء وحلول سهلة ونقد مجاني للنخب كما هو الحال عند الشعوبيين الحقيقيين، بل على إنجازات حقيقية تمكنوا من خلالها تعبئةَ شرائح عريضة من المجتمع لصالح الثورة والتغيير. جمال عبد الناصر: القائد العروبي بامتياز فترة ما بعد الثورة كانت مفصلية في تاريخ مصر والجزائر وإيران لأنها كانت هي المحك الحقيقي للخطاب الثوري ولشعارات التغيير.

إنجازات جمال عبد الناصر كانت ثورية بكل المقاييس من تأميم للقناة وبناء السد العالي وتعبئة “الجماهير العربية” وراء مواجهاته المتعددة للإمبريالية. أعطى عبد الناصر “نوعا من الأمل في مستقبل الثورة العربية” كما بين ذلك جابرييل بن دور من جامعة حيفا في تقديمه لكتاب “إعادة النظر في الناصرية: الثورة والذاكرة التاريخية في مصر الحديثة” (من إعداد إيلي بوده و أون وينكلور، منشورات جامعة فلوريدا، 2004). ولكن الإنجازات كانت كلها نفسية سيكولوجية (دائما حسب بن دور) لأنها كانت ملتصقة بعبد الناصر وكارزميته وجاذبيته كبطل وقائد. لهذا سرعان ما تبخرت هذه الإنجازات مع موته.

ما سماه بن دور الإنجازات السيكولوجية لعبد الناصر يعتبرها البعض ديماغوجية وشعبوية دغدغت عواطف الشعوب العربية لتبرير الفشل في الانتصار على إسرائيل وعلى “الرجعية العربية” وحتى على الإمبريالية. لهذا فهؤلاء ينظرون إلى إنجازات عبد الناصر التاريخية على أنها لم تؤدي إلى بناء مؤسسات صلبة ولا إلى تحرير طاقات الإنسان المصري عبر تجدير ممارسة ديمقراطية حقيقية ولا حتى إلا تحسين أحواله الاقتصادية والاجتماعية بشكل ملحوظ.

والحقيقة في نظري هو أن الناصرية كانت خليطًا من البراجماتية والإيديولجيا القومية العروبية ونفحةٍ من الشعبوية خصوصًا في زمن الأزمات والانتكاسات.

كانت لجمال عبد الناصر قدرة هائلة على تحويل الهزائم إلى انتصارات كما حصل في حرب 1967، وهذا لم يكن ليحصل لولا الاستعانة بخطاب يحمل شعارات رنانة ويوجِّه اللومَ إلى أكباش فداء من الداخل، ويقدم حلولًا سحرية مثل التعبئة الشاملة والتسلح لتحقيق التوازن ووضع أسس اشتراكية ديمقراطية خاصة بالمنطقة العربية. ومع ذلك لا يمكن اعتبار عبد الناصر زعيما شعبويا بالمفهوم الذي وضعناه أعلاه.

قد تكون للشعبوية مزايا في التعبير عن سخط شرائح عريضة وتعبئتهم من أجل التغيير، أي أنها “وعي شقي” بالمعنى اللوكاشي للمقولة. لهذا فجمال عبد الناصر كان همه هو استعمالها لجعل العرب قوة لا يستهان بها على المستوى الدولي وضمان استقلالية قرارهم ونفض غبار التبعية للغرب؛ واستعمل من أجل ذلك شخصيته الكاريزمية و خطابا قد يدغدغ العواطف ويدفع ببعض الحلول السهلة ويقترب في بعض الأحيان من الشعبوية.

من بن بلة إلى بومدين: إرث ثورة المليون ونصف شهيد الثقيل من جانب آخر، لم يكن قادة الثورة الجزائرية ومن ضمنهم بن بلة وبعده الهواري بومدين، شعبويين بالمعني الكلاسيكي للشعبوية ولكنهم وضعوا وعودا أكبر من قدرة البلد على تحملها واقترحوا حلولًا سحرية ورغبة في قيادة حركات التحرر في العالم الثالث باسم الشعب الجزائري وكلها تشتمل على نفحات شعبوية.

ولكن هذه السمات لم تكن في حينها تبدو هكذا، بل وإن الكثير من المفكرين والقادة كانوا منبهرين بها كحلول يجب أن يُقتدى بها في العالم الثالث؛ وهذه الحلول هي الثورة الزراعية والتدبير الذاتي في عهد بنبلة والقرى النموذجية والتصنيع الثقيل في عهد بومدين.

الإصلاح الزراعي الذي دشن له بنبلة همَّ إعادة توزيع الأراضي ولكن الإصلاحات التي رافقت هذه العملية، بالرغم من شعبيتها لدى الفلاحين وعموم الشعب، فإنها تمت في جو من الفوضى؛ من جانب آخر، لم تكن عمليات التأميم والتدبير الذاتي من طرف العمال (المستوحاة من فكر وسياسة الزعيم اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو) ناجعة ومنتجة بل ساهمت في ضرب القاعدة الإنتاجية للصناعة التي تركها الاستعمار الفرنسي (انظر جيفري جيمس بيرن، “نوع من الاشتراكية خاص بنا: الجزائر وتضارب أنواع الحداثة في الستينات” مجلة التاريخ الدبلوماسي، المجلد رقم 33، العهد 3، يونيو 2003 و كانغ ماني سينغ، “الإرث الثوري لأحمد بنبلة 1916-2012” تقرير واشنطن حول قضايا الشرق الأوسط، صندوق التربية الأمريكية،2014).

من جانبه، لم يركز بومدين على الثورة الزراعية فقط ولكن على التصنيع كذلك، خصوصًا التصنيع الثقيل. حيث قام بتأميم الصناعات بدأً بصناعة البترول والغاز وصارت الدولة هي المخِطِّط والمنفِّذ لسياسة التصنيع وهي سياسة سرعان ما أبانت عن محدوديتها في غياب النجاعة والتنافسية والتدبير المحكم.(انظر كتاب مارتين إيفانز وجون فيليبس، “غضب المحرومين”، منشورات جامعة ييل، 2008).

الإصلاح الزراعي والتصنيع والتدبير الذاتي كلها سياسات باءت بالفشل وكانت كلها تُسَنُّ باسم الشعب وباسم الثورة. هل هي نتيجة توجه شعبوي لدى القادة الجزائريين؟ هذا أمر وارد خصوصًا وأن الشعارات والتوجه العالمثالتي ورأسمالية الدولة (المسماة بالاشتراكية) كانت تعتبر حلولًا (سهلة) كفيلة بتحقيق التنمية المنشودة بسرعة وبقدرة قادر. ولكن مع ذلك تبقى مرحلة ما بعد الثورة في الجزائر لا تشكل استثناء عن ما بعد ثورات التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا: حيث تغطي الآمال المعقودة على الثورة وحلم الحرية والاستقلال على الشعارات الجوفاء والسياسات الخاطئة والخطابات الشعبوية.

 

بـقلم: لحسن حداد

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً