كيف تعيش حياة أفضل عن طريق “التصالح مع الموت”؟




في خمسينيات القرن الماضي، كتب الشاعر والأديب والسياسي المكسيكي أكتافيو باث يقول: "لا تُلفظ كلمة الموت في نيويورك أو باريس أو لندن، لأنها تحرق شفاه من يتفوه بها هناك". لكن الأمر كان يختلف بالنسبة لمواطنيه؛ ممن يتحدثون باستفاضة عن مفهوم الموت، بل ويحتفون به عبر مهرجان للموتى يُقام سنويا. وقال أحدهم في هذا الشأن، إن الموت يشكل أحد ألعابه المفضلة، ويمثل أكثر ما يُكِن له حبا مستمرا وثابتا.

ورغم أن عبارة مثل هذه، تنطوي على مبالغة على الأرجح، حتى بمعايير الفترة التي قيلت فيها، فإنها لا تزال تثير تساؤلات، حول الدور الذي يلعبه الموت، في ما قد نسميه "فن الحياة". ففي إطار الحضارة الغربية، طُوِّرت آليات متنوعة، للفصل بيننا وبين حقيقة فنائنا المحتوم. فصناعة الإعلان مثلا، تقول لنا إننا سنبقى شبابا إلى الأبد، كما أننا نتجنب الحديث عن الموت مع أطفالنا، ونبعد كذلك كبار السن عن أنظارنا وأذهاننا، عبر وضعهم في دور المُسنين.

على أي حال، علينا تعلم سبل مواجهة الرعب الكامن في الموت، والتحلي بالشجاعة اللازمة، للتعرف على كيف يمكننا، عبر وعينا بأننا بشر فانون، أن نعيش حياتنا الحالية، ونواجه صعوباتها. فلتتأمل هنا مثلا اللوحة الذاتية "البورتريه" التي رسمتها الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو تحت عنوان "التفكير في الموت"، وأظهرت فيها جمجمة ذات طابع جنائزي مروع على جبينها. أو لتفكر في الحكمة البليغة للكاتب ألبير كامو، التي قال فيها: "تقبل الموت. بعد ذلك، سيكون كل شيء ممكنا". غير أن تحقيق التصالح مع الموت، يبدو أمرا يُسهل الحديث عنه لا القيام به.

لكن لا تظن - في كل الأحوال - أن من بين الطرق التي تفضي بك إلى تحقيق هذا الهدف، تأملك لساعات تلك التصورات المتعلقة بملاك الموت، الذي يطلق عليه البعض اسم "حاصد الأرواح". ففي واقع الأمر، قد يتمثل السر وراء ذلك، في إعادة تصور العلاقة بيننا وبين الزمن نفسه. وفي السطور التالية ثلاث أفكار تتعلق بهذا الأمر، مما قد يفتح أمامك آفاقا غير متوقعة، للحصول على ما يساعدك على مواصلة حياتك بنجاح.

حفل عشاء في الدار الآخرة

في عام 1886، أصدر الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي روايته القصيرة "وفاة إيفان إيليتش". وتتمثل الشخصية الرئيسية في العمل، في مسؤول قضائي بارز يعيش في مدينة سان بطرسبرغ، وكرّس حياته للترقي في السلك القضائي. وساعد أسرته أيضا على تبوء مكانة مرموقة في المجتمع البورجوازي لروسيا القيصرية. ونراه في إطار أحداث الرواية، وهو على فراش الموت، رغم أن عمره لم يكن قد تجاوز 45 عاما. وفي تلك اللحظات، يتساءل الرجل عما إذا كان قد بدد حياته في الهرولة وراء تحقيق أهداف سطحية من عدمه. ويقول متأملا في مرارة: "ماذا إن كانت حياتي برمتها - في واقع الأمر - ليست سوى خطأ؟"

وتقدم لنا هذه الرواية تجربة عقلية مفيدة. فماذا لو كان باستطاعتنا، ونحن على فراش الموت، استعراض كل ما مررنا به في حياتنا؟ كيف سنشعر حيال ما فعلناه فيها حين ننظر في تلك الحالة إلى الوراء؟ هل سنشعر بالفخر بما أنجزنا؟ هل سنشعر بأننا عشنا حياتنا كما ينبغي دون أن نهدر أي فرصة سنحت لنا خلالها؟ أم قد نشعر - كما حدث لـ "إيفان إيليتش" - بالندم يجتاحنا؟ النقطة المهمة هنا بالطبع، أن تأملات مثل هذه، كفيلة حال حدوثها في وقت مبكر، بدفعنا لتغيير الطريقة التي نتصرف بها "هنا والآن". ويتمثل أسلوبي المفضل للقيام بهذه الرحلة الزمنية التخيلية، في تدريبٍ على التصور والتخيل، أطلق عليه اسم "حفل عشاء في الدار الآخرة".

ويقوم هذا الأسلوب على أن يتخيل المرء نفسه مدعوا على حفل عشاء في الآخرة، يشهد كذلك حضور "نسخ مختلفة منه هو ذاته"، تُظهر كيف كان يمكن أن يصبح عليه حاله، إذا ما اتخذ خيارات مختلفة في حياته. فعلى طاولة هذا العشاء، ستلتقي الشخص الذي كنت ستصبح عليه إذا استذكرت دروسك بجد واجتهاد. وسترى أيضا ما كنت ستصير إليه إذا تركت وظيفتك الأولى، وصممت على تحقيق حلمك. ولن يخلو الأمر أنت ترى صورتك المتوقعة، إذا ما كنت قد أصبحت مدمنا على معاقرة الكحوليات، أو تصادف نسخة أخرى من شخصيتك، تعبر عما كنت ستصبح عليه، حال بذلت مجهودا أكبر لإنجاح زيجتك على سبيل المثال.

عليك بعد ذلك أن تتأمل هذه الشخصيات البديلة لك والمحتشدة حولك؛ بعضها سيبدو مثيرا للإعجاب، بينما يظهر البعض الآخر متعجرفا ومزعجا كذلك. ومنها قليل، قد يجعلك تشعر بأنك كسول أو غير كفء، من فرط ما حققت تلك النسخ المتخيلة منك، من إنجازات في حيواتها الأخرى المفترضة. فأي هذه الشخصيات ستشعر بفضول للقائه والتحاور معه؟ ومن منها ستفضل تجنبه؟ أيها ستشعر نحوه بالحسد؟ وهل توجد من بينها شخصية كنت تفضل أن تكون عليها، بدلا من شخصيتك الحالية؟

السلسلة العظيمة للحياة

أسلوب ثانٍ، لفهم وجودنا الإنساني، يتمثل في الاستفادة من الحكمة الكامنة في ثقافات السكان الأصليين للعديد من الدول، وهي تلك الثقافات التي تنظر للعالم، على نحو يزيل الحواجز القائمة فيه بين الحياة والموت، ما يخلق لدينا شعورا بالتسامي والاستعلاء أحيانا.

وفي هذا الإطار، ثمة مفهوم مُلهم في ثقافة سكان نيوزيلندا الأصليين أو "الماوري"، يُعرف بـ "وكابابا"، ويعني "النسب" أو "علم الأنساب". ويتمحور هذا المفهوم، حول فكرة مفادها بأننا جميعا جزء من سلسلة عظيمة للحياة، تربط الجيل الحاضر، بالأجيال التي سبقته وبتلك التي ستلحقه مستقبلا.

ويساعدنا ذلك المفهوم، على أن نرى مشهد الحياة بشكل أكثر شمولا، بحيث يتسنى لنا رؤية كل من هم جزء من تلك السلسلة؛ الرابطة بين الماضي والحاضر والمستقبل. ومن هذا المنطلق، يتيح لنا مفهوم كهذا، إدراك أن الأحياء والأموات وحتى من لم يُولدوا بعد، موجودون معا في المكان نفسه، ما يجعلنا بحاجة لاحترام مصالحهم، كما نحترم مصالحنا سواء بسواء. ولا شك في أن القيام بهذه "القفزة التخيلية" يمثل تحديا، خاصة بالنسبة لمن هم منغمسون منّا في الثقافة الاستهلاكية الغربية، التي تطغى عليها الأنانية والنزعة الفردية بشدة.

وبمقدورنا الشروع في ذلك، بمساعدة تجربة عقلية أخرى، تتضمن السفر ذهنيا عبر الزمن. ولخوض غمار هذه التجربة، عليك أن تفكر في طفل تعرفه وتهتم بأمره، قد يكون ابنا أو حفيدا لك أو ابن لأختك أو لأخيك كذلك. الآن، فلتتخيل ذلك الطفل وهو يحتفل بعيد ميلاده التسعين، مُحاطا بأسرته وأصدقائه. ثم تخيل أن شخصا ما أتى في هذه اللحظة، وبين ذراعيه رضيع، ربما يكون حفيد هذا "الطفل المُسن". تصور بعد ذلك، أن يحدق حاضرو الحفل في عينيْ ذاك الرضيع، متسائلين "ما الذي يحتاجه هذا الصغير لكي يبقى على قيد الحياة ولأن ينعم برغد العيش خلال السنوات والعقود المقبلة؟"

هل بوسعك تأمل هذه الفكرة للحظة، قبل أن تفكر في أن هذا الرضيع ربما سيشب عن الطوق ويعيش حتى قدوم القرن الثاني والعشرين، وأن مستقبله لا يشكل ضربا من ضروب الخيال العلمي، بل حقيقة تخص أسرتك وشؤونها، وترتبط بشكل وثيق بحياتك أنت نفسك. ولذا فإذا كنا مهتمين بالفعل بحياة هذا الصغير، سيوجب علينا ذلك الاهتمام بالحياة بمختلف أوجهها، أي أن نكترث ونعبأ بكل الأشخاص الذين سيحتاج لمساعدتهم في المستقبل، وبالهواء الذي سيتنفسه خلال حياته. باختصار، أن نهتم بالحياة برمتها.

ويمكن أن تساعدنا تجارب عقلية مثل هذه، على تجاوز الحدود المرتبطة بحياتنا ذات المدى الزمني المحدود في كل الأحوال، وعلى الاستفادة من الحكمة الكامنة في مفهوم "وكابابا". فكلنا جزء من السلسلة العظيمة للحياة. وبوسعنا عبر إدراك موقعنا في هذه السلسلة، الشروع في توسيع نطاق فهمنا لما يشكل "الحاضر الآني"، بحيث لا يقتصر هذا المفهوم على ثوانٍ أو دقائق أو ساعات حاضرة، وإنما يمتد ليكون عقودا وقرونا أو حتى آلاف السنوات. ومن شأن ذلك، إكسابنا الشعور بالمسؤولية، عن الإرث الذي سنتركه للأجيال المقبلة، في وقت نحترم فيه الأجيال السابقة لنا كذلك.

أسفار إلى الزمن السحيق

بمقدورنا أيضا إعادة التفكير في علاقتنا مع الموت، من خلال النظر إليها عبر مفهوم "الزمن السحيق"، الذي يشير إلى العمر الجيولوجي الطويل لكوكب الأرض. وسيؤدي ذلك إلى أن ندرك أن البشرية وكذلك حياة أشخاص من أمثالنا، ليست سوى عبارة مقتضبة في قصة كونية ممتدة بشدة. ويمكننا هنا الاستشهاد بما قاله الكاتب الأمريكي جون ماكفي، من أنه إذا اعتبرنا تاريخ الأرض كله عبارة عن المسافة الواقعة بين أنفك وطرف يدك الممدودة، وهو المقياس الإنجليزي الذي كان يعرف بالذراع لقياس الأطوال، فلن يتجاوز حجم تاريخ الإنسان على ظهر كوكبنا، طرف ظفر أصبعك الأوسط، ما يعني أن ضربة واحدة بمبرد الأظافر، كفيلة بمحو تاريخنا كله في طرفة عين! لكن علينا أن نتذكر، أنه كما يوجد هناك "زمن سحيق" مضى قبلنا، فثمة "زمن سحيق" آت في المستقبل. ومن هنا فإن أي مخلوقات ستظل باقية على قيد الحياة بعد خمسة مليارات عام من الآن، أي عندما تأفل شمسنا تماما وتتلاشى، ستكون مختلفة عنّا، بقدر ما نحن مختلفون، عن أول بكتريا وحيدة الخلية، ظهرت على كوكبنا.

ويتيح لنا تأمل وضعنا عبر مفهوم "الزمن السحيق" هذا، الفرصة لإدراك مقدار ما لدينا من إمكانات مدمرة. فخلال قرنين فحسب، سادتهما حضارة تقوم على الصناعة؛ أدت التقنيات المهلكة التي نملكها - جنبا إلى جنب مع "العمى البيئي" الذي نتصف به - إلى تهديد عالم استغرق تطوره مليارات السنوات. ألا نتحمل مسؤولية عن أن نُبقي للأرض مواردها الضرورية لحياة البشر؛ كي تنتفع بها الأجيال المقبلة؟ في الوقت نفسه، يؤدي تحديدنا لموقعنا على هذا الامتداد الزمني الطويل لتاريخ الأرض، إلى مساعدتنا على إدراك الأهمية الحقيقية لمسألة فنائنا. فنحن لسنا سوى لحظة عابرة في حكاية أضخم وأطول كثيرا.

وعلى الرغم من أن "الزمن السحيق" مفهوم مراوغ، فإن أعاجيبه والدروس المستفادة منه في متناول أيدينا. ويمكننا فهمه بشكل أفضل، بمساعدة كُتّاب خيال علمي مقتدرين وذوي بصيرة، مثل نورا كيه. جَيميسن أو أورسولا لو غَين، ممن فتحتا كما غيرهما، الباب أمام عقولنا للسفر عبر الحقب الزمنية الطويلة. ونستطيع أيضا استيعاب مفهوم "الزمن السحيق"، عبر الانخراط في عمليات البحث عن الأحافير وبقايا الكائنات المنقرضة، كي يصبح بمقدورك مثلا، أن تحمل بين يديك صدفة متحجرة لحيوان منقرض، من تلك التي يُطلق عليها اسم أمونيت، عمرها 200 مليون عام.

بوسعنا كذلك، التحديق في النجوم، التي نعلم أن ضوءها الذي نراه بأعيننا الآن، انبثق منها قبل أن يظهر الإنسان على سطح الأرض من الأصل. كما أن بإمكانك، التوجه إلى شجرة عتيقة للغاية، لتَخْبُرَ الحياة هناك "بسرعة الأشجار"، كما عبر عن ذلك من قبل بعذوبة وبلاغة شديدة للغاية، الكاتب والروائي الأمريكي ريتشارد باورز.

في نهاية المطاف، دعونا - ونحن ننهمك ربما في النقر على زر "اشترِ الآن" على شاشة هاتفنا الذكي - أن نتوقف للحظة، لكي نُشرّع أبواب مخيلتنا، حتى يتسنى لنا الشعور بأن "الآن" هذه، أطول من مجرد تلك اللحظة العابرة التي اعتدناها. فهكذا نبدأ رحلة ما بعد الموت، ونصبح أيضا أسلافا صالحين.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Culture

مقالات مرتبطة :


إقرأ أيضاً