بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: أمثلة عن القضايا الملحة المطروحة للاجتهاد اليوم (17)



من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

 

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

 

أمثلة عن القضايا الملحة المطروحة للاجتهاد اليوم

الحلقة (17)

 

نقترح أن يعالج الاجتهاد الجماعي القضايا الملحة في المجالات السياسية، والاقتصادية والمالية، والشؤون الاجتماعية، والشؤون الصحية المعاصرة. وسنعطي أمثلة محدودة لهذه القضايا في الميادين التالية :

 

أ-الشؤون السياسية وشؤون الحكم والدولة والنظام الديمقراطي :

-عولمة الحكم والنظم السياسية :

 

يمضي العالم اليوم على طريق العولمة الشاملة التي سيأتلف على قاعدتها النظام العالمي الجديد بدون حدود فاصلة ولا حواجز مانعة، وبدون هويات وجنسيات مختلفة.

 

وتقوم على ذلك كله الدولة مؤسسة المؤسسات التي يمكن أن تكون في شكلها إما ملكية أو إمارة أو جمهورية أو مجلسا جماعيا له رئيس منتخب. ويسود في ظل العولمة النظام الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية، واختيار الحاكم ومراقبته من لدن الشعب.

 

ولذلك نرى أن يسلط الاجتهاد الإسلامي نظره الفاحص على هذا النظام، ويدرسه بجميع تفاصيله ودقائقه، ويتبنى منه كل ما يتفق ونظام الشورى الإسلامي المفتوح الذي اقتصر على أحكام عامة، وأن يسعى إلى أن لا يستبعد من النظام الديمقراطي إلا ما يتنافى مع مبادئ الشورى الأساسية. وبذلك  يصبح الإسلام يعيش العصر الحاضر محتفظا في الوقت نفسه بقيمه.

 

وسيجد الفكر الإسلامي أن هذا النظام الديمقراطي بما يعمل به من آليات الانتخاب والاقتراع، والمجالس البرلمانية والمجالس المحلية والجهوية، ومنح الثقة للحكم وحجبها ومساءلته من لدن نواب الأمة، لا يتنافى في معظم قواعده مع روح الإسلام، وأحيانا يلتقي مع نصوصه القطعية الثابتة في الكتاب والسنة. وعلى ذلك يعلن الفكر الإسلامي عن موافقته عليه وتبنيه بعد أن يبدي على بعض آلياته ما يراه لا مناص عنه من التحفظات إن اقتضى الحال ذلك، حتى يظهر الحكم الإسلامي في صورة حكم مندمج في نظام الحكم العالمي الجديد، مساير للتطور، يوحي بالاطمئنان إليه كحكم حضاري. ولعل التحفظات إن وجدت ستكون إغناء للاجتهاد القائم حول النظام العالمي، تضيف إليه أو تصححه أو تهذب مساوئه.

 

-حقوق الإنسان :

 

يحكُم عالمَنا ميثاقُ حقوق الإنسان العالمي الذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1945. وللإسلام نصوصه وتعاليمه المقدسة عن حقوق الإنسان التي نشأت مع نشأة الدعوة الإسلامية، وانضافت بعدها إليها قيم أخرى مستمَدﱠة منها مع امتداد الحكم الإسلامي.

 

ونحن نعتقد أن أكثر ما جاء به الميثاق الأممي من تركيز على كرامة الإنسان وضمان حرياته، وتمتيعه بالحقوق الفردية والجماعية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، سبق إليه الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، لكن ما تزال بين الموقف الأممي والموقف الإسلامي من هذه الحقوق بعض المفارقات، فحقوق الإنسان في الإسلام منضبطة بحقوق الله على عباده، وحقوق العباد تابعة لحقوق الله. وهذه المفارقات يجب أن يبرزها الفكر الإسلامي بتوضيح ما بين مفهوم الحقوق في الإسلام ومفهومها الأممي من قواسم مشتركة، لتكون النتيجة اندماج عالم الإسلام في ميثاق الحقوق الأممي، مع إبداء ما قد يكون على هذا الميثاق من تحفظات سيكون لها أثر إيجابي مثلما رأينا ذلك في التحفظات على شؤون الحكم والدولة الديمقراطية.

 

-الشرعية الدولية :

 

ينطر الاجتهاد في مفهومها الدولي الحاضر ويبدي رأي الإسلام في ضبط مفهومها، ويركز على رفض الإسلام لنزعة ازدواجية المقاييس التي تقوم عليها في التطبيق والتعامل الدولي. والمطلوب من الاجتهاد أن يقيمها على قاعدة ضمان العدل والمساواة واحترام القيم ووحدة المقاييس.

 

ب-الشؤون الاقتصادية والمالية :

-عولمة الاقتصاد والتجارة :

 

دخل العالم اليوم في طور عولمة الاقتصاد والمال، وانتقل من عهد نظام الاقتصاد الحر إلى نظام أكثر تحررية يحمل اسم اقتصاد السوق. وقد امتد هذا النظام عبر العالم خاصة عندما تسارعت دول العالم إلى الانخراط في المنظمة العالمية للتجارة، وهي تلقي على الدول مسؤولية فتح أسواقها للمنتوجات العالمية، واستقبال رؤوس الأموال من كل جنسية، واستبعاد الحواجز والمعوقات عن حرية تنقلها، وتخفيض الرسوم على الصادرات والواردات مؤقتا بهدف إلغائها استقبالا، وإدخال خدمات التأمين والبنوك في مجال التجارة الحرة. وكل ذلك شكل الآليات التي تعمل لعولمة الاقتصاد والتجارة.

 

-عولمة المال :

 

وقد نتج عن ذلك تدفق رؤوس الأموال على الأسواق العالمية، ومصدرها شركات متعددة الجنسيات متوفرة على رساميل كبرى، تَقدر بها على منافسة رؤوس الأموال المحلية لكسب رهان الأرباح الطائلة. وهي شركات لها عبر العالم فروع تابعة لها تستطيع التهام شركات ومقاولات صغرى محلية تشتريها بأبخس الأثمان، وتبعدها عن المنافسة، أو تنهار هذه الشركات أو المقاولات الضعيفة تحت طائلة الإفلاس فتتنحى من نفسها عن حلبة السباق، لفائدة المقاولات الدولية الكبرى أو الشركات العالمية العملاقة.

 

والمطلوب أن ينظر اجتهادنا المعاصر في عولمة الاقتصاد والتجارة والمال، ويبحث عن حكمه الشرعي في الممارسة والتطبيق، علما أنه من المستحسن أن يكون هدف اجتهادنا هو الوصول إلى التوصية بالتعامل مع هذا النظام، حتى لا يبقى العالم الإسلامي منعزلا عن العالم، ولأن انعزاله سيؤدي إلى شلل اقتصاده، مما سيزيد المسلمين تخلفا ويجعل تأثيرهم على العالم ضعيفا وحتى منعدما.

 

-حكم الشرع في الشركات المعاصرة :

 

لقد أصبح الاقتصاد الإسلامي مضطرا في تجارته وبيوعاته إلى التعامل بواسطة شركات ذات تنظيمات جديدة تعمل بآليات غير تلك التي كان يعمل بها الاقتصاد في عهود الاجتهاد الإسلامي. ومن بين هذه الشركات الشركات مجهولة الاسم، أي التي لا تُعرف أسماء مالكي أسهمها، وتتحول ملكية أسهمها بواسطة توقيع التنازل عن الأسهم دون أن يُكشف عن ذلك. فمالك السهم هو حامله. ولا يظهر في هذه الشركات إلا مجلسها الإداري. كما أن من بينها شركات ذات المسؤولية المحدودة التي يكون لها متصرف وحيد. وتوجد شركات مدنية عقارية، أي أنها تملك العقار ولا تتاجر فيه، وأخرى خاصة بالاستثمارات.

 

والمطلوب حيال هذه الشركات أن يتعمق الاجتهاد الإسلامي في التعرف على ملاءمة تسييرها وامتلاك أسهمها، وانتقال ملكيتها، ودراسة نظمها الأساسية التي يأتلف منها عَقدها المؤسس أو نظامها الأساسي، وتَضبط شروط التعامل فيها ليُعرف حكم الشرع في ذلك. وإذا كان لا يوجد فيها ما يخالف الشرع يعلن المجتهدون عن ذلك ليأخذ اقتصاد المسلمين تزكية الشرع ويندمج في الاقتصاد العالمي مطمئنا.

 

وقد سبق مجمع الفقه الإسلامي بجدة النظر في أحكام بعض الشركات وضبطها بمقياس الشرع، والمطلوب المتابعة. ويدخل في موضوع الشركات قضية ملحة تفرض نفسها على الاجتهاد المعاصر، وهي حكم الشرع في الإبقاء على مساهمة ورثة الهالك على الشياع في هذه الشركات، وذلك لصالح مجموع الورثة، إذ قَسْم التركة وحيازة كل وارث حصته في التركة إثر وفاة الهالك وتوزيع الفرائض، تؤدي إلى توزيع الجهود وتبديد الموروث وتناقص أدائه ومردوديته. وحُسْن تسيير الاقتصاد يوصي بإبقاء الشركات على ما كانت عليه في عهد الهالك إذا اختار الورثة ذلك ليستفيد كل وارث نصيبه على قدر حجم رأس المال المشترك، ولا كذلك يكون الأمر إذا لم تبق الشركة على الشياع، فالناتج يضعف رأس المال، علما بأن أسهم كل وارث تبقى مضبوطة ولكن بدون قسمة وحيازة. وبقدرها تعود العوائد على أصحابها. ويد الله مع الجماعة، وعلما كذلك أن الشركات التي تعمل على هذا النحو تقسم أسهم الشركة الموروثة طبقا لما فرض الله، ولكنها تؤخر حيازتها من الورثة فقط.

 

-حكم التعامل مع البنوك وتحديد المحرم من أنواع الربا :

 

لقد اجتهد علماء السلف إلى فريقين في تحريم الربا. فأكثرهم حرمه بجميع أنواعه. وبعضهم فرق بين الربا الخفي فأحله وهذا هو ربا الفضل، وقال بهذا علماء معاصرون حرﱣموا من الربا فقط الربا الجلي أو ربا النسأ. والمطلوب من الاجتهاد المعاصر أن ينظر في التعامل مع البنوك التي تعمل بنظام الفوائد، لمعرفة ما هو المحرم منه وما هو المباح؟

 

وينبغي استحضار المجتهدين حقيقةً أصبحت تفرض نفسها وهو أن لا غنى لاقتصاد المسلمين عن التعامل مع هذه البنوك التي يدعوها البعض بالربوية، والتي توفر لزبنائها خدمات لا تتوفر لهم بدونها مقابل عمولات تتقاضاها منهم كأجرة. والاقتصاد الذي يتحاشى التعامل مع هذه البنوك ويتباعد عنها يجمد ولا ينمو. والبنوك الإسلامية تبدو غير قادرة على تعويض هذه البنوك. ومجال نشاطها ما يزال محدودا وأكثرها مقتصر على المرابحة. وهي مصارف غير موجودة في جميع المعمور وحتى داخل العالمي الإسلامي كله.

 

-التعامل مع الشراكة الأجنبية والاستثمارات الخارجية :

 

وهذا مجال آخر للاجتهاد المعاصر. فعولمة الاقتصاد تفرض اليوم أن تتدفق على أقطار العالم استثمارات من خارجها، وأن تقيم شركاتُها الوطنية علاقة شراكة مع المقاولات والشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، كما تفرض على الشركات الوطنية تحسين مستوى تنظيماتها على غرار شركات الغرب التي تستعمل تقنيات تيكنولوجية تساعد على سرعة الأداء ورفع حجم مردودية المقاولات.

 

ولا أرى في الإسلام مبدئيا ما يتعارض مع ذلك، لكن حكما شرعيا فاصلا لا بد أن يصدر عن اجتهاد الجماعة الإسلامية، معلنا عن جواز شراكة المسلم مع الأجنبي، والاستفادة من ثمرات استثماراته، وإقامة مقاولاته فوق أرض الإسلام مما يجعل عالم الإسلام يندمج في الاقتصاد العالمي ليفيد ويستفيد.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً