مشاهد من سيرة الملك في ذكرى ميلاده.. هكذا أمر الحسن الثاني ببناء قبره قبل وفاتـه



في مثل هذا اليوم التاسع من يوليوز كان المغرب ينظم احتفالات عيد الشباب الذي تم الإعلان عنه أول مرة سنة 1956 بمناسبة بذكرى ميلاد الملك الحسن قبل أن يتم تغييره إلى يوم 21 غشت بعد وفاته واعتلاء محمد السادس لعرش المملكة.

 

ولد الحسن الثاني بن محمد بن يوسف بن الحسن يوم التاسع من شهر يوليوز سنة 1929 في العاصمة الرباط، وحكم المغرب مدة 38 عاما في مرحلة بناء مملكة ما بعد الاستقلال، عاش فيها أحداثا خطيرة واتخذا قرارات صعبة، فالملك الراحل نجا من محاولتين انقلابيتين الأولى في البر والثانية في الجو وشهدت البلاد في عصره اضطرابات سياسية واجتماعية تخللتها سنوات من الاستقرار قبل الصدام السياسي مع الاتحاد الاشتراكي في تسعينيات القرن الماضي وهي لحظة تاريخية توقف عندها المتخصصون في علوم السياسة والتاريخ كثيرا.

 

وفي ذكرى ميلاد الملك الراحل، نحيي بعض المشاهد من حياته الشخصية خاصة تلك المتعلقة بأيامه الأخيرة قبل الرحيل، نرويها كما قرأناها في مذكرات الصحافي الصديق معنينو “مغرب زمان”.

 

تفاصيل اكتشاف مرض الملك الراحل وبداية مسار جديد

 

في نهاية شهر أكتوبر من سنة 1995، سافر الحسن الثاني من جديد إلى أمريكا للمشاركة في احتفالات الأمم المتحدة بالذكرى الخمسين لتأسيسها، ولعقد سلسلة لقاءات مع قادة الدول الذين حجوا إلى نيويورك، والذين فاق عددهم المائة.. استقر الملك في الفندق الذي اعتاد الإقامة فيه، وجرت كل الاستعدادات لإعداد قاعة مزينة على الطريقة المغربية لاستقبال قادة الدول والحكومات.

 

مساء يوم 24 أكتوبر، نادى الملك بسرعة على أطبائه، بعد أن شعر بصعوبة في التنفس، وهي وضعية أثارت قلق الملك ومحيطه.. وكان الملك قد أصيب قبل ذلك بزكام حاد، ربما راجع لبرودة الطقس في نيويورك، وعدم اتخاذه الإجراءات اللازمة لمواجهته. استصغر المحيط الوضعية الصحية للحسن الثاني، لكن الأمور أخذت تتطور بشكل غير منتظر، وبسرعة وصلت الإشاعات إلى الرباط، وتناسلت الأقوال.
استشار الأطباء المغاربة زملاءهم العاملين في أرقى المستشفيات الأمريكية المتخصصة، وتم الاتفاق على ضرورة دخول الملك إلى المستشفى لإخضاعه لفحوصات وكشوفات ضرورية، تساعد على ذلك التكنولوجيا المتقدمة في ذلك المستشفى، وتردد أن الملك عندما عرض عليه الأمر، رفض مغادرة الفندق رغم استمرار أثر الأزمة وتأثيرها عليه وعلى محيطه.

 

تردد كذلك أن ولي العهد ضغط بكل قوة لإقناع والده بسلامة هذا القرار، كما أن الأميرة لالة مريم تدخلت هي الأخرى في الموضوع، وتحكي كواليس الإقامة الملكية في نيويورك أن تدخل الأمراء والأميرات، بكل ما يتطلبه الأمر من استعطاف وإقناع، أثر على الملك، واضطره إلى قبول مبدأ «زيارة» المستشفى الأمريكي، مما كان له الأثر الإيجابي على الوفد المرافق وعلى العائلة الملكية بالرباط.
فجأة صدر بلاغ جديد عن التشريفات يقول إن «الملك دخل المستشفى الأمريكي «أكورنيل نيويورك هوسبيطال» وإن وضعيته في تحسن مستمر».. وخلال تلك الفترة تولى ولي العهد الأمير سيدي محمد قيادة كافة العمليات بدءا بإلقاء خطاب الملك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستقبال رؤساء تلك الدول والحكومات التي كانت على موعد مع والده.. ويقول الذين عاشوا تلك اللحظات في نيويورك إن الأمير سيدي محمد أظهر عزيمة وحنكة ضمانا للاستقرار واستمرار شؤون الدولة، إلى جانب عناية فائقة بوالده.. يوم 30 أكتوبر صدر بلاغ جديد عن التشريفات يقول إن «الملك غادر المستشفى الأمريكي وإن الأطباء نصحوه بأخذ أيام راحة قبل عودته إلى أرض الوطن..».

 

هكذا نقل الحسن الثاني من نيويورك إلى الرباط

 

عندما تقررت العودة إلى الرباط، خاصة بعد اقتراب السادس من نونبر، ذكرى المسيرة الخضراء، تمت استشارة الأطباء من جديد حول تأثير الرحلة الجوية الطويلة، من نيويورك إلى الرباط، والتي قد تكون مصدر انزعاج للملك وربما مصدر خطر عليه.. بعد مشاورات مكثفة، تأكد أن الرحلة تكتسي نوعا من الحساسية، وأنه قد يتعرض وهو في الأجواء إلى أزمة جديدة أو مضاعفات غير محمودة، لذلك تقرر تجهيز الطائرة بكل وسائل التدخل السريع، كما تقرر ألا تحلق عاليا، كما هو المعتاد في مثل هذه الرحلات، وأن تقتصر على ارتفاع لا يؤثر على وضعية المريض.

 

هكذا وبكثير من الاحتياط والدعاء والإيمان، أقلعت طائرة الحسن الثاني من نيويورك، وبداخلها طاقم طبي على استعداد للتدخل، يتوفر على إمكانيات تقنية وطبية تساعد على مواجهة مؤقتة لكل أزمة محتملة.. وتردد أن صمتا مطلقا سيطر على المسافرين، إلا أن الملك أظهر جرأة نادرة، حيث تجول بينهم وداعبهم واستشار بعضهم في أمور لا علاقة لها بمرضه، كان إيمانه قويا وحالته النفسية إيجابية، وقدرته على التحمل نادرة.

 

حطت الطائرة في مطار سلا، وتقدم للسلام على الحسن الثاني الأمراء والأميرات وكبار مسؤولي الدولة، ولأول مرة حضر إلى المطار لاستقباله أربعة من حفدته، حيث بدت على الملك علامات التأثر لحضورهم وارتمائهم عليه وعناقهم له طويلا.

 

أذكر أني ذهبت إلى المطار للاقتراب من الملك، ومعاينة وضعيته الصحية، والاستماع إلى ما سيحكيه الذين رافقوه خلال الرحلة.. خلال وجودي بالمطار، واقترابي من الملك، لاحظت علامات الإرهاق بادية على محياه، وربما لأول مرة اكتشفت أن الرجل نحيف، يمشي بتؤدة وكأنه منشغل بشيء ما…

 

قال لي الحسن الثاني: «المعلم وجد لي المحل المعلوم.. قبري، لقد حان الوقت»

 

يضيف محدثي بأن الحسن الثاني دعاه للحضور إلى قصر الصخيرات، الذي كان يقيم فيه كعادته في فصل الصيف، «فعلا ذهبت في الموعد المحدد، وانتظرت في خيمة كانت منصوبة هناك قريبا من المسبح. بعد ذلك حضر الملك، وتقدمت مختلف الشخصيات للسلام عليه وكنت من بينها.. لاحظت فورا أن الملك يتكئ على عصا، وهي أول مرة أرى فيها ذلك، كما لاحظت أنه فقد الكثير من وزنه، بحيث أصبح نحيفا.. كان يمشي بتؤدة، وكأنه يخشى السقوط، لكنه في نفس الوقت ظل يتمتع بهيبة قل نظيرها..

 

كعادتي انحنيت وقبلت يده، تراجعت قليلا إلى الوراء وأنا مطأطئ الرأس في انتظار الأمر الملكي.. ظل الحسن الثاني صامتا لحظات ثم قال لي « آلمعلم، وجد المحل»، أجبت «الله يبارك في عمر سيدي..» ورفعت رأسي قليلا، وقد رسمت على وجهي ما يوحي بأنني أتساءل عن معنى المحل؟ وماذا يقصد الملك بذلك؟ وماذا هو منتظر مني؟ كانت هذه طريقة تعاملي مع الحسن الثاني، فلم أقل له يوما إنني لم أفهم قصده أو سألته ماذا يعني أو طلبت منه أن يدقق تعليماته.

 

بادر الملك للقول: «عليك بإعداد المحل»، ولما لاحظ نفس التساؤل والاندهاش عبر أسارير وجهي قال لي بصوت هادئ.. «المحل المعلوم»، ظننت في البداية أن الملك يريد مداعبتي، كما حدث بضع مرات حين كان يفاجئني بطلبات غريبة، تعكس ذوقا راقيا في البناء التقليدي، لكنه أمام صمتي وحيرتي قال لي: «عليك بإعداد قبري.. حان الوقت» ويعترف محدثي: «شعرت وكأن الملك رماني بقنبلة».

 

انفجرت واضطرب جسدي، وارتعشت يدي وبدأت في البكاء، لا أدري ماذا مسني، ولا أدري ماذا أصابني، وإذا بي أرتمي على رجلي الملك وأمسك بهما وأصيح وأنا أواصل البكاء: «أطال الله عمر سيدنا.. حفظ الله سيدنا». ظل الملك واقفا، وقال لي «كل نفس ذائقة الموت.. الصبر أ لمعلم.. الصبر والهدوء».

 

بعد لحظات اضطراب، ساعدني على الوقوف وقال لي: ”اذهب إلى الضريح، وهيئ المحل.. والأمور بيد الله ولا بد من السرية وعدم إثارة الانتباه.. !». انحنيت من جديد، وقبلت يده، ودعوت له بالصحة والعافية والسلامة وطول العمر، وقلت له كلاما لا أتذكره بالضبط، لأنه كان تحت ضغط العاطفة والتأثر، لكنه قاطعني وقال.. «وجد لي محلي آلمعلم»، ثم انصرف وابتسامة جميلة على محياه.

 

غادر القاعة، وأحاط به عدد من المسؤولين، ومنهم أحمد بنسودة، الذي كان يتكلم بصوت مرتفع، ولا أدري ماذا قال، لأن الجميع ضحك، كما أن الملك هو الآخر انفجر ضاحكا، وبذلك كانت آخر مرة رأيت فيها الحسن الثاني يضحك بهذه الطريقة، وكأنه نسي المهمة التي كلفني بها.. أو كأنه لا يريد إزعاج مساعديه، وبث روح الكآبة على جمعهم. كان قوي الشخصية مؤمنا بالقضاء والقدر.

 

سنين المعاناة الصعبة للحسن الثاني مع تدهور صحته

 

سنة 1996 سيشعر الحسن الثاني بتدهور صحته.. سيعاني داخل أسوار القصر، وستتكاثر عليه الأدوية والمسكنات والمنومات، وستقل خرجاته الرياضية في الكولف الملكي بدار السلام، بل كان يغتنم فترات الراحة للتريض في الكولف داخل القصر الملكي بالرباط. سيشار عليه بالذهاب إلى فاس نظرا لقلة الرطوبة، ثم سيطلب منه الذهاب إلى مراكش نظرا لجمالها في جوها الربيعي، وسيرافقه في هذه الرحلات عدد من الأطباء المدنيين والعسكريين، المغاربة والأجانب.. وبذلك سيعيش القصر مرحلة صعبة.

 

ومع كل هذه الأوضاع، ظل الحسن الثاني يعاند القدر، ويحاول تجاوز الخلافات، وتعبيد الطريق أمام استمرار المُلك والملكية.. تأكد ذلك عند العفو على السجناء السياسيين.. والسجناء العسكريين… وتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.. وتغيير عدد من القوانين الوضعية، وتغيير الدستور، والحوار مع المعارضة.. وتوسيع اختصاصات الحكومة.. وصلاحيات البرلمان. توقفت مراقبة الصحف أو متابعة الصحافيين، ونشطت الأحزاب السياسية الموالية والمعارضة، كل هذه الإنجازات كان الحسن الثاني يودّ تتويجها بضم كافة الجهود، وتوحيد الصفوف من أجل الاستقرار والاستمرار، وهما الضمانة الأساسية لكل تطور وتقدم في المغرب.

 

الطريقة السرية التي حفر به قبر الحسن الثاني في الضريح

 

فعلا توجهت إلى ضريح محمد الخامس، واصطنعت عدة حيل، سمحت لي بدخول الطابق التحت أرضي لمباشرة المهمة التي كلفت بها.. كنت على يقين بأن أي شخص لم ينتبه لما أقوم به، نظرا لأن زياراتي المهنية إلى الضريح كانت كثيرة كلما تعلق الأمر بإصلاح أو ترميم أو ما شابه ذلك…» هكذا وعند موت الحسن الثاني كان قبره معدا لاستقباله قبل مدة».

 

ويضيف محدثي «استدعاني الملك محمد السادس بعد الدفن، وأمرني بالانكباب على الجانب التقني في إعداد القبر، وبناء غطائه من المرمر الإيطالي الأبيض، وكلفني بالذهاب إلى إيطاليا، والسهر هناك على كافة مراحل الإعداد مع احترام التفاصيل الضرورية لذلك. قبل ذهابي حرت من أمري، فقد كان وسط القباء الواسع قبر محمد الخامس، بشكله الفريد، من حيث الكبر والحجم والنقوش، وفي الركن الأيمن ضريح الأمير مولاي عبد الله في شكل أقل كبرا وحجما، لذلك تساءلت كيف سيكون البناء المرمري الذي سيغطي قبر الحسن الثاني؟ هل سيكون في حجم قبر والده؟ هل سيكون في حجم قبر الأمير؟

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً