كيف تحدث عمرو موسى عن ملكين في مذكرات ساخنة!



 

يستحضر عمرو موسى، وزير الخارجية المصري لمدة عشر سنوات والأمين العام لجامعة العربية الأسبق، في مذكراته ” كتابيّه” التي تتسم بذاكرة سياسية قوية، كواليس الكثير من الأحداث في العالم العربي التي كان شاهدا عليها. فيرويها بكثير من التفصيل من موقع الفاعل السياسي في تاريخ مصر السياسي والدبلوماسي على مدى نصف قرن عاش خلالها قريبا من ثلاثة رؤساء: جمال عبد الناصر حتى وفاته المفاجئة، وأنور السادات حتى اغتياله، وحسني مبارك حتى عزلته ثورة الربيع العربي. حيث مكنت عمرو موسى تجربته الديبلوماسية الطويلة من أن يحظى بشعبية واسعة داخل مصر وخارجها، لكنها لم توصله إلى رئاسة الجمهورية رغم تقدمه للانتخابات الرئاسية في سنة 2012.

كواليس إصرار الجزائر على حضور البوليساريو في المؤتمر الإفريقي الأوروبي بالقاهرة

 

تم الاتفاق على عقد المؤتمر الإفريقي الأوروبي الأول في القاهرة في سنة 2000 لرسم شراكة إفريقية أوروبية في هذا الصدد. بدأنا التحضير مبكرا لهذه القمة، فظهرت أمامنا مشكلة كبيرة أثناء التحضير، تمثلت في «الصحراء الغربية» فهي عضو كامل العضوية في منظمة الوحدة الإفريقية منذ سنة 1984، وهو ما أدى لانسحاب مملكة المغرب من المنظمة، باعتبارها لا تعترف بـ»الصحراء الغربية» وترى أنها جزء من الأراضي المغربية. وبموجب هذه الخلفيات فقد أصرت الجزائر على حضور «الصحراء الغربية» للمؤتمر الإفريقي الأوروبي الأول بالقاهرة، بوصفها دولة كاملة وبناء على دعوة رسمية توجه إليها كباقي الدول الإفريقية، وأعلنت الجزائر أنها لن تحضر المؤتمر من دون حضورها، في حين أعلنت المملكة المغربية أنها لن تحضر المؤتمر إذا حضرته «الصحراء» ويؤيدها في ذلك الأوربيون، وهو ما هدد فرص انعقاد المؤتمر منذ بدايات الترتيب له.

 

تحدثت مع الإخوة في الجزائر مقترحا بشدة أن تتجنب الجزائر أن تتهم بأنها تشكل العقبة أمام انعقاد هذا المؤتمر المهم، وفي الاجتماع الإفريقي الخاص بالإعداد للقمة، طلبت من كل الدول ألا تقف في وجه هذا المؤتمر، وقلت للحضور: إن مشكلة حضور «الصحراء» يمكن حلها ولدي حلها، وهي أنها سوف تدعى لحضور المؤتمر، لكنها سوف تعتذر، والاتفاق في هذا يضمن حقها في عدم تخطيها في الدعوة، وقرارها هو قرار سيادي بالنسبة لها، وهذا يكفي، واعتذارها عن الحضور سوف يجنبها الحرج، ويسمح بانعقاد الاجتماع، ويفتح لها في الوقت نفسه أبواب التعاون مع الدول الأوربية، في ضوء هذا التعامل المسؤول الذي يتيح حضور المملكة المغربية، والذي هو حضور هام تتمسك به دول الاتحاد الأوربي وعدد كبير من الدول الإفريقية. حرصت على أن يكون ذلك في اجتماع شامل رفيع المستوى، حتى نتخذ القرار النهائي الذي مهدت له، فقابل الأفارقة الذين كانوا حريصين جداً على عقد القمة الإفريقية الأوربية اقتراحي بتأييد عارم، ثن اجتمعت مع «وزير خارجية الصحراء»، وقلت له: نحن في مشكلة، ومصر من جانبها باعتبارها البلد المضيف تتعهد بتوجيه دعوة رسمية لكم لحضور المؤتمر، وهذا يحفظ حقكم، لكن عليكم ألا تحضروا وبقرار منكم يبلغ إلينا أو إلى الأمين العام للمنظمة، كي يحضر المغرب وينعقد المؤتمر، فتفهم الوضع.

 

بعد إنضاج هذا الحل، تحدثت إلى الرئيس مبارك. قلت له: «وجدت حلا لأزمة حضور الصحراء، سندعوها لحضور المؤتمر كي نرضي الجزائر ـ فقال لي الرئيس إنه لن يدعوها.»وخلي سالم أحمد سالم (أمين عام منظمة الوحدة الإفريقية – الاتحاد الإفريقي حاليا) يدعوها» وهو ما تم بالفعل ـ وأكملت أننا سنطلب منها الاعتذار حتى نضمن حضور المملكة المغربية التي إن لم تحضر، فلن توافق الدول الأوروبية على عقد المؤتمر من الأساس، لكن هذا المقترح ينبغي عرضه على الملك محمد السادس، عاهل المغرب وعبد العزيز بوتفليقة شخصيا، لأن كل ذلك كان على مستوى وزراء الخارجية.

 

اتفقت مع الرئيس على أن أزور المغرب والجزائر لتسويق هذا الحل، ومعي تعهدات شخصية منه بضمان تنفيذه. اهتم الأوربيون بالمقترح المصري وشجعوه، وانضم إلي خايما جاما وزير خارجية البرتغال باعتبار أن بلاده كانت تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوربي.

 

 

لقائي مع محمد السادس: حين غضب الملك ثم ابتسم

 

توجهت في البداية إلى الجزائر بصحبة وزير خارجية البرتغال يوم 10 فبراير 2000. كان من المفترض أن نلتقي بوتفليقة معا، جاما وأنا، لكنني استأذنت رفيقي في الرحلة وقلت له: دعني ألتقي الرئيس على انفراد قبل اجتماعنا، وهو ما تم بالفعل، إذ قابلت الرئيس في حضور وزير خارجية الجزائر يوسف اليوسفي، وقلت له: سيادة الرئيس، إننا نعرف مدى حرصكم على انعقاد القمة الإفريقية ـ الأوروبية، ونريد دعمكم في تذليل العقبات بشأن مشكل الصحراء الغربية، ونحن نقترح أن تتم دعوتها لحضور المؤتمر، لكن عليها ألا تحضر. رد بوتفليقة: ومن سيوجه لها الدعوة؟ قلت: الأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية. قال: أفهم من ذلك أن الرئيس مبارك لن يوجه لها الدعوة. قلت: ما يهمنا هو جوهر الدعوة يا سيادة الرئيس.

 

تفهم الرئيس الجزائري الموقف، وقبل المقترح المصري كي تنعقد القمة الإفريقية الأوربية بسلام، لكن الصعوبة جاءت في مقابلة الملك محمد السادس عاهل المغرب، الذي ذهبنا للقائه في اليوم التالي لزيارتنا للجزائر. التقيته أيضا بمفردي، قبل اجتماعنا مع الوزير البرتغالي كما فعلنا في الجزائر.

 

كان العاهل المغربي غاضبا جداً عندما التقيته، لكني لاحظت فور دخولي لمقابلته مدى الأناقة التي يتمتع بها. لاحظت أننا نرتدي بدلتين من نفس اللون، قلت سأداعبه من هذه النقطة، كي أخفف من حدة التوتر والغضب اللذين لاحظتهما عليه فور رؤيتي له.

 

وصلت إليه، وتبادلنا التحيات، فبادرت من دون مقدمات وقلت له: دعني أحيي جلالتكم على هذه الأناقة والشياكة، فهذا اللون هو أجمل الألوان، فتبسم الملك، وخفت الحدة نسبيا. قلت له: نحن في مصر نقدر ونعرف حقيقة الموقف المغربي من موضوع «الصحراء»، ولن نجرحه ولن نؤثر فيه أبدا، لكن ما سيتم بحضوركم وحضور الجزائر، أن الدعوة ستوجه إليها، لكنها لن تحضر. قال: وهل تضمن عدم حضورها؟ قلت: نعم، أضمن. قال: ومن سيدعوها؟ قلت: سيدعوها الأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية لأن الرئيس مبارك حرص على عدم توجيه الدعوة إليها بنفسه باعتباره رئيس الدولة المضيفة، مفرقا في ذلك بينها وبين كل الدول الأوربية والإفريقية.

 

في الأخير، وافق الملك محمد السادس على هذا المقترح، وفرح الأوربيون بحل هذه الأزمة، وأطلقوا على مقترحي الذي ضمن حضور الجزائر والمغرب لقب «صيغة موسى.»Moussa formule»

 

البحث عن صاحب «الفكرة» في الدار البيضاء

 

دعا الملك الحسن الثاني ملك المغرب العالم لحضور قمة اقتصادية شرق أوسطية، في الدار البيضاء في 30 أكتوبر1994 لدعم عملية السلام بتزكية من الرئيسين الأمريكي بيل كلينتون وبوريس يلتسين. قبل الدعوة ممثلون رفيعو المستوى من 61 دولة تشمل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان والاتحاد الأوربي، و 12 دولة عربية وإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبلغ إجمالي عدد المشاركين 6000 من القادة والسياسيين والاقتصاديين بينهم 125 وزيرا و1114 من كبار رجال الأعمال وممثلي المؤسسات الاقتصادية العالمية.

 

وخلال هذا المؤتمر كان شيمون بيريز يسعى إلى عقد اجتماع لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإسرائيل وتركيا، والولايات المتحدة للتوافق على نظام أمني جديد في المنطقة. وبالفعل وصلت أنا من القاهرة يوم 30 أكتوبر 1994 بعيد الثامنة مساء، وتوجهت إلى فندق المنصور بالدار البيضاء، وبينما أنا أهيئ نفسي لأخذ حمام ساخن، إذا بشيمون بيريز يتصل هاتفيا لأمر عاجل كما قال مكتبه لمكتبي، وبعد أن رحبت بوصوله استفسرت عن الأمر العاجل. فقال إنه فقط يريد إبلاغي بأننا اتفقنا على أن نجتمع غداً، فسألته من اتفق مع من؟ ومن اتخذ القرار؟ فقال بيريز الذي كان ينزل في فندق آخر إن إسرائيل ومصر وتركيا والأردن والولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية ستجتمع، فسألته: هل مصر وافقت على مثل هذا الاجتماع؟ قال: لهذا السبب أنا أتصل بك.

 

الواقع أنني بعد حديث بيريز شككت في أن يكون الأمر قد أثير في القاهرة وأنها لم تعترض باعتبار أن بيريز كان يتحدث معي، وكأنه أمر تم إبرامه فعلا، ومن ثم حرصت أن أذكر الرئيس مبارك بكلام بيريز واعتراضي في الوقت نفسه.

 

اتصل بيريز في السابعة صباحا، قلت له من الجيد أنك اتصلت، فأنا أبلغتك عن عدم موافقتي، واليوم أبلغك عدم موافقة الرئيس، فقال لي: بالأمس، سألتني من هو صاحب المبادرة، الحقيقة أنها كانت فكرة دولة عربية، سأحجم عن ذكرها. ثم راح يتحدث بدهائه المعروف بما يشير أن هذه الدولة العربية هي الأردن.

 

قابلت رئيس الوفد الأردني وكان الأمير الحسن بن طلال ولي العهد آنذاك، وقابلته على ما أذكر في العاشرة صباحا، سألته: ما الموضوع وسوريا غير موجودة، فقال لي: هذه ليست فكرتنا، بل فكرة العاهل المغربي الحسن الثاني. فور عودتي للفندق بعد لقائي مع الأمير طلال بن الحسن، طلبت موعدا عاجلا للقاء العاهل المغربي الحسن الثاني لمناقشة هذا الموضوع، وقد التقيته بالفعل قبيل افتتاح المؤتمر وأبلغته بموقف مصر من المقترح الاسرائيلي، وكان عبد اللطيف الفيلالي وزير الخارجية حاضرا والملك رئيس المؤتمر جالسا وراء مكتبه، ونحن جالسان أمامه، استمع الملك باهتمام، والتفت إلى الفيلالي الذي قال إن بيريز تحدث بالفعل عن هذه الفكرة، ولكن لم تتم أي ترتيبات بشأن انعقاد الاجتماع المشار إليه حتى الآن، فأمر الملك بعدم عقد هذا الاجتماع وإبلاغ بيريز بذلك.

 

حينما وضعني الملك الحسن الثاني على “ميزان حساس”

 

بعد زيارتي لليبيا وتونس والجزائر، زرت المغرب، وجلست مع الملك الحسن الذي كان الجلوس معه متعة في حد ذاته.

 

لأنه عندما كان يجلس معك لأول مرة يضعك على “ميزان حساس”، يحاول سبر أغوارك والتعرف عليك، وبرغم أنه كان قد سمع عني، منذ أن كنت سفيرا لمصر في الهند، عندما أرسل محمد بنعيسى مبعوثاً شخصيا له لتمهيد الطريق لعلاقة قوية بين الرباط ونيودلهي، وأحسنت استقباله وتعريفه بالمجتمع الهندي، وبمفاتيح تركيز النفوذ فيه، فإن ذلك لم يمنع العاهل المغربي الراحل أن “يزنني بميزانه” في لقائي الأول به.

 

تحدثت للحسن الثاني عن الفترة التي عملت فيها ممثلا للأمم المتحدة في مصر، وعن البعد المتوسطي لسياستنا. وتجدر الإشارة هنا أنني كنت قريبا من قضية الصحراء بين المغرب والجزائر أثناء عملي بالأمم المتحدة، وهي قضية شديدة الحساسية كانت مصر ولازالت تتعامل معها بحرص شديد لاهتمامها بإقامة علاقات مع الدولتين الشقيقتين، وتراعي في ذلك الطابع العربي للنزاع بشكل عام، بالإضافة إلى جانبه الإفريقي.

 

كنت واثقا من أن الديبلوماسية المغربية تعرفني جيدا، لأنني أعرف أنها تتابع باهتمام تصرفات ومواقف السفراء العرب في الأمم المتحدة الذين كانوا يعتبرون مؤثرين في مواقف بلادهم من القضايا المطروحة على أجندة هذه المنظمة الدولية الكبرى.

 

الأمير السعودي يطعمنا أرجل ضفادع

 

أمضينا في مدريد عدة أيام نتابع الوفود العربية والإسرائيلية لمفاوضاتها الثنائية لأول مرة، وجرت سهرات بيني وبين بيكر، في جناحه بالفندق حضرها الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن، ورئيس الوفد السعودي أمام المؤتمر، ناقشنا خلالها أمور اللجان الثنائية، واقترحت لجنة خاصة بالقدس، وقد رحب بها. وحوالي منتصف الليل، بعد انتهاء اليوم الأول للمؤتمر، وفي الصباح ذكر لي أول ما التقى بي، أن إنشاء لجنة القدس سيكون صعبا، وعلمت أن دنيس روس، مستشاره لشؤون المفاوضات، حذره من خطورة ذلك الاقتراح، وأنه من شأنه التسبب في انسحاب إسرائيل من المؤتمر.

 

تلقينا دعوة من الأمير بندر بن سلطان إلى غداء خارج مدريد، في الريف الإسباني المحيط بالعاصمة يوم السبت 2 نونبر 1991، وتوجهنا إلى هناك بالفعل: الوفدان السعودي والمصري، عرض خلالها رؤيته للموقف الأمريكي، وكان يرى خلالها أن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للضغط على إسرائيل وتليينها، فرجوته أن يتابع مع البيت الأبيض موضوع لجنة القدس. ومن طرائف هذا الغداء أو الطبق الرئيسي كان «أرجل ضفادع»، وقد لاحظت ذلك، فاعتذرت وطلبت نوعا آخر دون أن أعلق، وفي طريق العودة، أبلغت الوفد أنهم أكلوا أرجل ضفادع، فانزعجوا، وكاد يغمى على بعضهم.

 

القذافي: ساعة استثنائية

 

فور تعييني وزيرا للخارجية، سرى همس قاده الرئيس الليبي الراحل، مؤداه أن عمرو موسى القادم من نيويورك لترؤس الديبلوماسية المصرية، ما هو إلا «مبعوث أمريكاني لمصر»، كان هذا الكلام مفاجئا لي، ولكل من يعرفني من الديبلوماسيين.

 

بعد فترة من تعييني بفترة قصيرة جاء القذافي إلى القاهرة، ونصب خيمته الشهيرة في قصر القبة الرئاسي، ولأنه كان يتشكك في شخصي وفي نواياي، فقد أرسل هدايا تذكارية عبارة عن ساعة يد لكبار المسؤولين المصريين أعضاء الوفد الرسمي الذي خاض مباحثات مع الوفد المرافق له إلا وزير الخارجية. كان قد وصلني ما يردد بشأني، لكنني لم أحاول أن أنفيه إطلاقا.

 

لقائي الأول بالقذافي كان غاية في الطرافة، فقد جاء الدور على ليبيا في سلسلة الزيارات التي قمت بها فور تعييني وزيرا للخارجية، توجهت إلى طرابلس، وأوصلوني إلى خيمته، فجلست أمامه لكنه ظل ينظر إلى السماء، ويتجنب النظر إلي، لأنني كنت وقتها في نظره «أمريكانيا» أو ربما عميلا، بالطبع مثل هذه الحركات لم يكن واردا أن آخذها بجدية أو أن أهتم بما تعنيه، وكان قراري ألا أفتح معه موضوع اتهاماته لي. ظل القذافي طيلة الجلسة ينظر يميناً وشمالا، ينطق بكلمتين ثم يسكت، لكن كان من السهل علي جداً أن أجلب انتباهه، فحدثته عن كتاب جديد كان صادرا للتو عن البحر المتوسط وحلف شمال الأطلسي «الناتو» والقوة الأوربية، فاهتم جدا بمعرفة التفاصيل الموجودة في الكتاب الذي لم يكن قد سمع بصدوره من قبل. أخيرا، بدأ ينظر في اتجاهي، وقد داعبته بعد أن بدأت أتكلم وأنا أنظر إلى السقف، لأرى إن كان قد فهم الرسالة، ولكن الأمور تحسنت منذئذ.

 

وبعد أن ظهرت توجهاتي ومواقفي في الأطر العديدة للديبلوماسية العربية والدولية العديدة، قال القذافي: «كنت متحفظا إزاء عمرو موسى لاعتقادي بأنه أمريكاني، لكنني أدركت كم كنا مخطئين»، وبعد حوالي سنة، وجدته يرسل لي من دون مناسبة، ساعة، وكانت هي ساعة اليد التي احتفظ بها، ولم يهدها لي خلال زيارته للقاهرة باعتبار أنه اكتشف إنني عربي لا أمريكاني.

 

 

حين تساءلت في النيجر: ترى لو كان هذا الشاب مصريا؟

 

من المواقف الطريفة التي أذكرها بشأن جولاتنا الإفريقية، أننا كنا ذات مرة في النيجر، وأصر وزير الثقافة هناك على أن نزور المتحف الوطني لبلاده. استقبلنا شاب بسيط المظهر، يرتدي «تي شورت» وشبشب في قدميه، وعندما شرع وزير الثقافة في تعريفنا ببعض التماثيل والآثار الموجودة بالمتحف، إذا بهذا الشاب يخاطب الوزير بانفعال شديد قائلا: «سيدي الوزير، أنا المرشد هنا، ليس دورك أن تقدم تعريفا لمقتنيات المتحف للضيوف!». فما كان من الوزير إلا أن اعتذر للشاب، وتراجع خطوة إلى الوراء، وقدم الشاب لي وللوفد، واستمتعنا بشرحه، وأسجل هنا إعجابي الشديد بهذا الشاب الغيور على عمله، وتساءلت ترى لو كان هذا الشاب مصريا وخاطب وزير الثقافة بهذه اللهجة ماذا كان سيكون مصيره؟.

 

هدية الرئيس المالي ألفا عمر كوناري المحرجة

 

قمنا برحلة مع عدد كبير من رجال الأعمال المصريين، شملت 16 دولة إفريقية في أيام معدودات، لدرجة أننا زرنا ثلاث بلدان إفريقية في يوم واحد، زرنا مالاوي، وسوازيلاندا نهارا، وفي الليل وصلنا إلى بوتسوانا، وفي كل هذه البلدان، اجتمعنا بغرف الصناعة والتجارة، وجرت اجتماعات فردية بين المشتغلين في مشروعات متشابهة. استهدفت من هذه الزيارات إتاحة الفرصة لرجال الأعمال المصريين، لاستكشاف القارة الإفريقية التي أومن بأنها سوق مهمة للإنتاجات المصرية.

 

ومن ضمن القصص الطريفة التي صادفناها في جولاتنا الإفريقية، ما حدث في مالي، عندما التقيت بصحبة وفد من رجال الأعمال، رئيس مالي آنذاك ألفا عمر كوناري، فبعد تبادل عبارات الترحيب وعرض فرص الاستثمار من قبل عدد من المستثمرين الماليين، والزائرين المصريين وقيامنا بتقديم هدية عبارة عن طبق من فضة منقوش يعبر عن الحضارة الفرعونية، وبينما كنا نهم بالمغادرة، إذا بالرئيس يقول: «لحظة يا سيادة الوزير، انتظر هديتك».

 

صفق الرئيس بكلتا يديه، ونحن نترقب الهدية التي طلب إحضارها، فجاؤوه بتيس أبيض ضخم، ذي فرو أنيق يخطف الأبصار، وجه كوناري حديثه لرجال الأعمال قائلا: هذه هديتي إليكم، هذا منتوج تفتخر به مالي، هذا الجدي قوي جداً ومن الممكن أن ينتج 12 سلالة، لحمه شهي جداً، وفروه غالي الثمن، ننتج أعدادا ضخمة منه كل عام، ولا نذبحه بل نصدره، لكن الأزمة في التصدير أننا دولة حبيسة (لا تطل على بحار ولا محيطات)، فنقطع به نحو 700 كلم نحو ميناء أبيدجان في كوت ديفوار، فيموت ثلثها في الطريق، وما يظل حيا يتحول لكتلة من العضلات من كثرة المشي في بعض الأحيان، ويتسخ فروه وينحل. والآن أدعوكم بوصفكم رجال أعمال مصريين للمجيء إلى مالي والاستفادة من هذا المنتوج، اذبحوا هنا، واشحنوا لحمه إلى مصر، أو لأي مكان تريدون، استفيدوا من خيرات بلادنا». وقد سافرت وتركت التيس لأعضاء سفارتنا في مالي للتصرف فيه.

 

ومن الأمور التي أضحكتني كثيراً ما ذكره الدكتور بطرس بطرس غالي بشأن هذا التيس في مذكراته: «يوم الثلاثاء 26 ماي 1926 ـ أهداني الرئيس المالي ألفا عمر كوناري جديا، لم يكن مقتنعا بقدره، مما أوجب جره بقسوة لإحضاره أمامي، وقد أخبرني سفير مصر في مالي، أن وزير خارجيتنا عمرو موسى، تلقى هو أيضا هدية مماثلة، وكان على «الجدي» أن يرابط لعدة أيام داخل حديقة السفارة، وقد قام السفير المعروف بمراعاته للأصول بإرسال عدة برقيات مشفرة إلى القاهرة ليعرف ماذا عليه أن يفعل بهذا الضيف غير المتوقع، لكن جهده ذهب هباء، فالقاهرة لم تعطه الجواب. نسي الوزير الجدي تماماً، ولم يعط أي تعليمات حول مصيره، من ناحيتي طلبت من السفير أن يضحي بالجدي ويوزع لحمه على المحتاجين، ثم أضفت: كوني لم أعد الوزير المسؤول عنك، لم يعد من حقي أن أعطيك تعليمات مكتوبة، ولكن أناشدك بوصفك صديقا أن تنفذ هذه المهمة التي لا علاقة لها بالعمل الدبلوماسي».

 

الأغنية التي جعلت أيامي معدودة في منصب وزير الخارجية

 

كل الشواهد في سنة 2000 كانت تشير إلى أن أيامي باتت معدودة، على رأس الدبلوماسية المصرية، غير أن هناك بعض الأحداث التي عجلت برحيلي عن الوزارة، منها ما يتسم بالطرافة كما هو الحال في أغنية المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، الذي أصدر في ذلك العام، وفي ظل أجواء مشحونة بسبب الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) أغنيته الشهيرة التي يقول فيها  «بحب عمرو موسى وبكره إسرائيل»، وقد أعطت هذه الأغنية كمية كبيرة جداً من الذخيرة لكل من أراد التصويب على وزير الخارجية الذي يتردد اسمه في الأغنيات التي تنتشر كالنار في الهشيم بين الشباب في مختلف أرجاء الوطن العربي، ويغنيها الناس في أفراحهم، ولم يسبق أن جاء اسم مسؤول في أغنية في حدود ما أعرف، بخلاف رئيس الجمهورية في مصر، فكيف يأتي «حب عمرو موسى مقترنا بكره إسرائيل»؟

 

لم أسمع أغنية شعبان عبد الرحيم أو « شعبولا» فور صدورها، لكن ما لفت انتباهي هو الاعتراضات الإسرائيلية عليها، وفي الحقيقة لم أقابل صدورها بشيء من الضيق أو الضجر، رغم علمي أنها ستفتح علي أبواب جهنم. أتى لي صديق بهذه الأغنية، وبينما كنا نسمعها معا، صاح هذا الصديق: «الله يخرب بيتك يا شعبان يا عبد الرحيم، الموضوع كده حيخلص بسرعة يا عمرو بيه» في إشارة إلى أن أيامي باتت معدودة في الوزارة. ضحكت من كلام الصديق، وقلت يا رجل، عشر سنوات لي في الوزارة كافية جدا، ويا للروعة عندما أنهيها على نغمات اللحن شبه الوحيد لشعبان عبد الرحيم «إييييه» ورحنا في نوبة من الضحك على هذه الأغنية وعلى صداها على المستويين الشعبي والرسمي.

 

لا أستطيع أن أصف صدى هذه الأغنية في الوسط الدبلوماسي العربي والعالمي، فلم أقابل وزيرا أو مسؤولا إلا ويقول لي: «بحب عمرو موسى»، وأذكر أنني التقيت مرة بعدد من وزراء الخارجية في أوربا الذين راحوا يمزحون معي حول موضوع الأغنية، فقال لي أكثر من واحد منهم والضحكات تتطاير من أفواههم: أيامك في وزارة الخارجية باتت معدودة، فكنت أرد عليهم بضحك: وأيامكم، كانوا يقولون: كيف؟ فأقول: بالديمقراطية، أما أيامي فمعدودة بـ«الأغنية».

 

لقد أضحت هذه الأغنية جزءا من الحديث الديبلوماسي العالمي بشأن ما يجري في مصر، ولأن كل الدول المهتمة بمصر على دراية بأوضاعنا الداخلية من «تأليه» للحاكم الفرد، وعدم السماح لغيره بالبروز والظهور، فقد أجمع الكل على أن «وزير الخارجية سيغادر منصبه بعد أن أحبه المصريون وورد اسمه في أغنية شعبية يرددها الناس».

 

ظلت عبارة «بحب موسى وبكره إسرائيل» تلازمني حتى بعد أن غادرت وزارة الخارجية، ففي أثناء وجودي أمينا عاما للجامعة العربية، وخلال زيارتي لأمريكا الجنوبية، في الأرجنتين تحديدا فوجئت هناك بأحد الدبلوماسيين، يقابلني ضاحكا وهو يردد بالعربية: «بهب عمرو موسى وبكره إسرائيل»، وتكرر نفس الأمر مع رئيس الوزراء الماليزي عبد الله أحمد بدوي عندما التقيته لأول مرة، إذ بادرني بترديد نفس المقطع.

 

وبعد مرور أكثر من خمسة عشر سنة على صدور الأغنية، تكرر الأمر مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز في أثناء زيارته لمصر يوم تاسع أبريل 2016، فعندما تقابلنا في حفل العشاء الذي أقامه في السفارة السعودية بالقاهرة، ابتسم، وبادرني بقوله: «بحب عمرو موسى وبكره إسرائيل».

 

لم أر شعبان عبد الرحيم إلا بعد ثلاث سنوات من صدور الأغنية، وأنا أمين عام جامعة الدول العربية، حيث تصادف أن كان موجودا في حفل دعتني إليه السفارة المغربية في القاهرة، وبمجرد أن رآني حتى أخذني بالأحضان، وانتشرت هذه الصورة في الصحف والمجلات وقتها، ومن يومها، صار بيني وبين هذا الرجل صلة لطيفة، وعندما توفيت زوجته، حرصت أن أقدم له واجب العزاء، وعندما ذهبت إلى منطقته في أثناء حملتي الانتخابية الرئاسية في سنة 2012 كان على رأس من استقبلوني بحفاوة.

 

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً