لا نريد الاشتراكية التي تعني الفقر كما لا نريد الرأسمالية المتعجرفة
في الآونة الأخيرة، سلطت الأضواء بشكل كبير على قضايا التربية والتعليم والمدرسة العمومية، وطفا على السطح نقاش قديم جديد حول “فرنسة التعليم” و”الأستاذ” و”المدرسة العمومية”، في ظل الإصلاح الكبير التي تسعى الحكومة الجديدة لإدخاله على النظام التعليمي المغربي، الذي أصبح في هندسة حكومة عزيز أخنوش مرتبطا بالرياضة.
ولذلك ارتأينا في “الأيام” إن نربط الماضي بالحاضر، ونعود إلى العام 1975، أي إلى قبل 46 سنة من اليوم، لنفتح من جديد كتاب “التحدي” للملك الراحل الحسن الثاني، ففيه خصص بابا كاملا ليتحدث عن مجموعة من القضايا المتعلقة بالتربية والتعليم، ما يزال النقاش فيها مستمرا إلى اليوم.
فالملك الراحل كانت له مواقف بخصوص “فرنسة التعليم” وأدوار الأستاذ والمنح الجامعية، يربط فيها قضايا التعليم هاته بأمور أخرى على غرار الرياضة والموسيقى والمسرح والتلفزيون، فبالنسبة إليه هذه الأمور هي “باكيدج” واحد لا يمكن مناقشة عنصر منه في معزل عن الأخر.
تثقيف الإنسان لن يكون أسهل من زراعة الأرض
مشاكل تثقيف الإنسان لم تكن ولن تكـون بالنسبة لنا أسهل حلا من مشاكل زراعة الأرض، ففي زمن الحماية، كان ما يسمونه «التجهيز المدرسي» عـلـنا غير كاف، ولم تكـن عندنا جامعة عصرية.
في عام 32 / 1933، كان مجمل عدد التلاميذ والطلاب الذين يتابعون الدراسة في مختلف مراحل التعليم يصل بصعوبة إلى 55.000 وفي عام 1954، وصل عددهم إلى 165.000 بما في ذلك تلاميذ المدارس الخاصة المغربية وعددهم 20.000 أما اليوم (يتحدث عن العام 1975) فقد وصل العدد إلى 1.700.000، وتجاوزت الميزانية المخصصة للتعليم 20% من ميرانيتنا الوطنية.
رأي الحسن الثاني في فرنسة التعليم وتعريبه
يجب إن نذكر هنا حقيقة ساخرة، كان لها نتائج خطيرة للغاية في حياة الشعب المغربي ففي زمن الحماية، كان التعليم ـ مثـل الإدارة – مفرنسا بصورة منهجية، وظـل المغاربة زهاء خمسين سنة محرومين من لغتهم، ممنوعيـن من تعلم أدبهم وتاريخهم، ولذلك كانوا عندما يذهبون إلى المدرسة يعرفون بيبان لوبري PEPIN LE BRE، ولوي لوكرو LOUIS LE GROS وأرمان فاليير Armand FELLIERES، وأنـدري توريي André THEURIET، وألبير سامان Albert SAMAN، ولكنهم كانوا يجهلون حتى مجرد وجـود يعقوب المنصور، ومولاي إسماعيل، ومولاي الحسن، ولم يتفق لهم أبدأ إن سمعوا شيئا عن الفيلسوف ابن رشد، ولا عن ذلك الذي وضع ـ في القرن الرابع عشر ـ أسس علم الاجتمـاع، وأعني به ابـن خلـدون.
إن كل الأبحاث المختصة بـ«الفنون الأهلية» والفنون الجميلـة والأوابد التاريخية، والآثـار، والبحوث التي كان يقوم بها المعهد العلمي الشريف، شأنها شأن نشرة جمعيـة العلوم الطبيعية في المغرب، كانت تحـرر بالفرنسية فقط، باستثناء المؤلفات المطبوعة بالإسبانية والإنجليزية والألمانية، وكان الحال هـو نفسه لمنشورات مختبرات علـم الحشرات، وعلم الحيوانات، وعلم النباتات، وعلم المياه، وعلم الأرصاد الجوية، وفي كل ميادين الثقافة والحضارة، كانت اللغـة العربية محرمة، ومثل هذه الأخطاء هي التي جعلت ردود الفعل المغربية جد قوية عام 1956 ضد لغة أجنبية أريدَ فرضها.
ان العربية هي لغتنا الدينية والوطنية في إن واحـد: ولم نكن نستطيع إن نهجرها من غير إن نصبح ما سماه موريس باري Maurice BARRES بحق «المقتلعين من الجذور»، وإن طرد اللغة العربية عمليا من المدرسة ومن حياة المواطنين لم يكن يشعر به الشعب كإهانة جماعية فحسب، بل كذلك كظلم لا يمكن فهمه ولا تعليله، وهذه الإهانة وهذا الظلم كان يشعر بهمـا إلى حد كبير، لاسيما والإنسان المغربي لم يفقـد قـط وعيه بالنسبة لدينـه ولا بالنسبة لانتسابه إلى دولـة سيدة، وجراحات كهذه لا تلتئم إلا مع الوقت.
مهما كان شعورنا وإحساسنا بأن الإنسان لا يستقر على حال، فإن هذا لا يمنعنا من إن نتساءل عن الأسباب التي حذت بممثلي فرنسا النبيلة إلى حظر التعبير عن حضارة تخص إرث الفكر الإنساني، وإننا لا نزال نعاني من التأثير المؤذي والمشؤوم لهذا الحظر، فهل الذين فاخروا بجعلهم العربيـة تختفي من المغرب، كانوا يعرفون أنهم كانوا يقترفون مؤامرة ضد أسس ثقافتهم الخاصة ذاتها، وضد حضارتهم نفسها ؟ يمكن إن يشك في ذلك.
العرب علموا الغرب الكيمياء والأرقام والطب والصيدلة وعلم الفلك والجغرافيا
الأمر الذي لا يمكن النقاش فيه في الحقيقة، هو إن المغرب بفضل العلماء العرب، استطاع إن يعـرف الشعر، وأدب المسرح، والتاريخ الفارسي، وعلم الفلك الهنـدي، وقسطا كبيرا من النصوص الفريدة الإغريقية.
إن کتاب كليلة ودمنة يستمد حكاياته، وقد ترجمها إلى الإسبانية الملك ألفونسو الحكيم Alphonse LE SAGE من أسس هندية ـ أوربية، وقد اغترف منها لافونتين LA FONTAINE بكلتا راحتيه. ومفهوم الحب العذري وعبادة العذراء، ظهرت في مؤلفات كتابنا في القرن الثامن، وقد نقلها المغنون العرب في إسبانيا إلى الشعراء المتجولين troubadoures الإقليميين، وعن طريقهم إلى بترارك PETRARQUE فإلى دانتي أليغييري Dante ALIGHIERI في القرن الثالث عشر، وقصص المغامرات مشتقة من المقامة العربية التي هي حكاية منثورة مسجعة تروي قصة فارس شاب، وابن سينا وابن رشد هما اللذان أدخلا إلى العالـم اللاتيني الأفلاطونيـة والأرسطوطاليسية والمنحى الفكري الهادف إلى تكوين عقل إنساني بالعلوم والثقافة un humanisme ذلك المنحى الذي ازدهر بالغرب في عصر النهضة.
إنهم عرب أولئك الذين اخترعوا وحسنوا الطرق التجريبية وعلم الكيمياء وعلموا الغرب الأرقام العربية، لقد ظل الطب، والصيدلة، وعلم النبات، والفـلك، والجغرافيا علوما عربية طوال أربعة قرون، كما قبلت نظرية كروية الأرض عند علمائنا حوالي عام 800، ثم أقرها العلماء العرب في القرن الثاني عشر في بلاط روجار الثاني ROGER II في صقلية واليوم كم هـم عـدد الطلاب الغربيين الذين يعرفـون أنهم عندما يواجهون مسألة جبرية، إنما يواجهون علـم الجبر العربي؟
إن الإنسانية هي مجموعة متكاملة، وكل الشعوب المتحضرة هي في الحقيقة متضامنة مع بعضها، وإن كل حضارة من الحضارات قد عرفت لها أوجا، ثم انحلت فانتهت كما قال شبنگلر SPENGLER وفاليري VALERY وهذا ليس رأينا، رأينا هو أنه منذ أن خلق الله الإنسان، فإن الحضارات التـي خيل إليه أنها قد اندثرت إنما بعثت على شكل آخر في الزمان والمكان. وهكذا نرى اليوم الأمة العربية وقد استعادت وعيها لذاتها بعد قرون من السبات، وهذا ما يجعلنا نتنبأ للإنسانية بمستقبل أخصب.
لا نستطيع أن نشتغل بدل التلاميذ أو نطلب من المدرسين أن يحلـوا محلهم
إن المدارس العصرية كانت خاطئة في المغرب طوال النصف الأول من القرن الحالي، فقد كان من الأمور المدمرة أن نكابد نقص المدرسين، وأساتذة أطر التعليم الجامعي ولذلك لم يكن كافيا بناء مؤسسات مدرسية وحي جامعي جديد، ويرجع الفضل إلى تفهم فرنسا وإلى رجال التعليم الفرنسيين ذوي القيم العالية الذين أعانونا على الخروج مـن مأزق جعلنا قادرين على إعداد النهوض بمراكزنا الجهوية للتربية، وهي مراكز تعمل منذ عام 1966، وتتيح كل عام تكوين 1500 مدرس أو أستاذ، ومن الواضح أننا لا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك.
نحن لا نستطيع كذلك أن نشتغل بدل التلاميذ والطلاب، كما لا نستطيع أن نطلب من المدرسين والأساتذة أن يحلـوا محل تلامذتهم، وقد توجهنا إلى أولياء الطلاب الذين هم المدرسون والأساتذة الأولون لأولادهم، وأهبنا بهم غير ما مرة أن ينتبهوا ويعوا، ونحن على التأكيد لم ننس ما نحن مدينون به للمرحوم والدنا. إن التعليم الأولي وهو الأرسخ والأبقى، يبدأ في أحضان العائلة، وليس على مقاعد أية مدرسة.
الإنجليزية أزاحت الفرنسية لكن التخلي عنها يتسم بعدم الواقعية
ان الذين حكموا بلادنا طوال ثلاث وأربعين سنـة، لم يقدموا إلينا أحسن ما في الحضارة الفرنسية المتميزة، ولننس السيئة، كما قال الله في كتابه الحكيم، ولنذكر الحسنة.
ليس في الإمكان أن نعرف اللغة الفرنسية من غير أن نحبها، سواء كانت لغة بوليوكت POLYEUCTE أو لغة فيـدر PHEDRE أو اللغة التي كتبت بها هنرييت الإنجليزية تأبين الميت Oraison funébre d‘Henriette d‘Angleterre، أو لغة رينه أو اللغـة التي كتبت محاضرة النهـج العقلي Discours de la méthode أو محاضرة روح القوانين L‘esprit des lois. وقد سبق لكثير غيرنا منذ زمن طويل أن امتدحوا وضوح اللغة الفرنسية وأناقتها واقتضابها.
لقد كانت هذه اللغة منذ قرون، عربـة الآراء الحرة والخيرة. آراء لم تكن دائما مفهومة من قبل أولئك الذين كانوا يتلقونها بشغف. وهي في الحقيقة نافـذة متسعة مفتوحة لا على العالم الغربي فحسب، بل على عالـم المنطق والعقل والرصانة أيضا.
وبمفارقة عجيبة، تعلم بعض من أوفى مساعدينا اللغة الفرنسية لا بالمدارس الثانوية أو في الجامعات، بل في السجون الفرنسية، أو في المنافي، فتحرروا بذلك عن طريق المعرفة دون أن يستطيع سجانوهم أن يشعروا بذلك.
أما في ميدان المصطلحات التقنية، فإن اللغة الإنجليزية – ونستطيع أن نقول الأمريكية ـ قد أزاحت اللغـة الفرنسية التي حافظت مع ذلك على قيمتها كلغة عصرية، لا في الميدانين الديبلوماسي والقضائي فحسب، بل كذلك في الميادين العلمية والتجارية والتطبيقية. وقد كان التخلي عنها في الحقيقة امراً يتسم بعدم الواقعية، إذ كانت مألوفة لشعبنا منذ أمد طويل، والفرنسية هي إذن لغتنا الأجنبية الأولـى وقد أدخلناها إلى مناطق مثل منطقة الحماية الإسبانية سابقا رغم احتجاجات مدريد.
إن إشعاع اللغة الفرنسية ما زال قويا، وجزء غير قليل من القارة الإفريقية هو دائما متعلق بالفرنسية، لهذا فإن مواطنينا، وبفضل اللغة الفرنسية خاصة، يستطيعون أن يسافروا، وأن يتاجروا، وأن يدرسوا في الخارج.
وها نحن نرى اليوم أن قوانين التسارع التاريخي تعمل عملها كذلك في الميدان اللغوي. حادثة كان يجب ألا تفاجئ أحدا أثارت عند البعض تعجبا حقيقيا: فاللغة العربية لم تبق فقط لغة الباحثين والمتضلعين ولا لغة تقليدية، ولا لغة الفلسفة والآداب والدين، إذ عمدت الأمم المتحدة إلى تقريـر وجوب أن تكون العربية ـ في أجهزتها المختلفة ـ لغـة عمل إلزامية، وقد سبق أن جعلت «مقتضيات الطاقـة» منها لغة تجارية قد تصبح معرفتها غدا لا غنى عنها – إلا أنه لن يخطر في بالنا أن نجبر الأجنبي على أن يفصح عـن نفسه بالعربية لكي يتاجر معنا.
ما من أحد أكره المعلمين على اختيار مهنة من أجمل المهن وأصعبها
توجهنا مرات عديدة بالخطاب المباشـر، سواء إلى آباء الطلاب أو إلى المدرسين والأساتذة أو إلى التلاميذ والطلاب خاصة، وحتى إلى جميع الذين يشكلون عائلة واحدة. لقد قلنا للأولين إذا كان أبناؤهم بدافع سوء الحظ لم يحترموا معلميهم ووطنهم فإنهم لن يحترموا آباءهم وأولياءهم كذلك، وقد رجونا من المعلمين ألا ينسوا أبدا أنهم يقومون بواجب شاق ومضن يرتبط به إلى حد كبير مصير الأمة، وإن ما من أحد قد أكرههم على اختيار مهنة هي من أجمل المهن وأصعبها في العالم، لاسيما وأن أكثريتهم العظمى تتمتع بفكرة عالية عن الرسالة التي يؤدونها.
نحن نقدر ما يتمتع به العديد من المدرسين والمعاونين التقنيين الفرنسيين من ضمير وإنكار للذات، وقبل أن يكونوا موظفين كغيرهم ممن عرفنا فيما سبق، فإنهم ضيوفنا وأصدقاؤنا في نفس الوقت، ومعظمهم لا يتحسس أبـدا في بداية الأشهر الأولى أنه وهو في المغرب إنما يعيش في بلـد أجنبي حقا، وهم يمثلون فيه فرنسا على نحو مشرف لهم. إن المدرسة هي أحسن آلة لتقدير الزلازل في المجتمعات الانسانية، ولهذا فاننا كثيراً ما توجهنا بالخطاب ـ بكل صراحة ـ إلى التلاميذ والطلاب، وإلى الفائزين في مختلف المراحل الدراسية لنناشد عقولهم وقلوبهم، حقا إن المغرب ليست لـه خاصية الاضطرابات المدرسية والطلابية، إلا أن الكفاح في بلادنا في هذه الأثناء ضد الأمية يمتزج مع الكفاح اليومي في سبيل حياة الأمة، وفي بناء المغرب تتعلق كل المهمات بعضها ببعض تعلقا مباشراً، لأن المشاكل مترابطة.
لا نريد الاشتراكية التي تعني الفقر كما لا نريد الرأسمالية المتعجرفة
لا توجد إلا قاعدة واحدة لسلام الفرد والشعب هي: اعمل وأنتج. وليحفظنا الله من الديماغوجية، ومن الأحـلام الطوبائية، ومن الأنانية والفوضى. وقد أعـلنا ذلك مجدداً عندما تحدثنا إلى مندوب للإذاعة والتلفزة المصرية الصديقة فقلنا:
«إن هدفنا هو وضع فلسفتنا الاشتراكية كما نراها، موضع التطبيق، تلك الفلسفة التي أخذناها من القرآن، إذ قال الله سبحانه وتعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا». فنحن لا نريد الاشتراكية التي تعني الفقر، كما لا نريد الرأسمالية المتعجرفة ، بل نريد مجتمعا مغربيا يعطي لكل واحد من المغاربة الفرصة لينمي خيراته، ويزكي ممتلكاته دون محسوبية أو أي تمييز بين هذا وذاك». هذا هو الهدف، ونحن نفعل كل ما في استطاعتنا لكي نجعل كل مغربي وكل مغربية عند الانطلاق، قادراً على الوصول إليه بفضل العلم والتوجيهات التي نالوها.
ولكن لا ننس أنـه في عام 1955، كان مجموع الطلاب المغاربة الذين اجتازوا امتحانات البكالوريا الثانيـة 155 طالبا لا غير.
الطلاب في مجالس إدارة الجامعات
في المغرب، حيث يتمتع 70% من الطلاب بالمنح المدرسية، من الطبيعي أن يتحمل هؤلاء مسؤولياتهم في حضن الجامعة، إن الجامعات أو الكليات، والمدارس والمعاهد، تدار من القمة من قبل مجلس، ومجلس الجامعـة هذا يديره رئيس الجامعة، والعميد، ومديرو الكليات والمدارس والمعاهد، ومندوبون منتخبون من الأساتذة، والأساتذة المحاضرون، والمعاونون، بالإضافة إلى طالبين منتخبين من قبل مؤسستهم.
ثلاثة طلاب، منتخبون كذلك، يشتركون في كل مجلس أو مدرسة أو معهد، أما تدبير شؤون الأحياء الجامعية فعهد به إلى لجنة إدارية يرأسها رئيس الجامعة ويشترك فيها ثمانية ممثلين منتخبين من قبل الطلاب.
الطلاب والتخوف من مصيرهم المستقبلي
إن تلاميذ المغرب وطلابه ليسوا هم الوحيدين في العالم الذين يتساءلون عن مصيرهم ليكونوا مطمئنين، إنهم يعيشون على أرض خيراتها بحمد الله كثيرة، وهذه الخيرات يجب أن نستثمرها بتضامن وتعاون، ويا طلاب المغرب، اسألوا الأجيال السابقة، سيقولون لكم إنه منذ عشرين عاما، لـم نكن على شفا الهاوية، بل كنا في قعرها.
لقد قلنا وكررنا القول لمن يتخرجون من المدارس والجامعات، إنه إذا كانت الشهادة التي يحملها الطالب هي الدليل على ما حصل عليه من معرفة وما اكتسبه من صفات حد ذاتها ليست نهاية بل وسيلة، وسيلـة كمواطن، فهي للعبور من عالم المعرفة الصرفة إلى عالم مواجهة الحقيقـة إما لممارسة مهنة وإما للشروع في تهييء مستقبل، وتبقـى الإرادة والمبادرة والعمل واكتساب خبرة جديدة، من ضرورياتها اليومية «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»، هذا ما قاله نبينا الكريم، وطلابنا، بأكثريتهم العظمى، يعرفون أن الأمة ما زال عليها أن تتغلب على مشاكل عديدة فرضت عليها ، وهم يدركون أن المجتمعات البشرية منذ الحرب العالمية الأولى، قد دخلت دوامة أزمة، لا تخرجها منها ذريعة نظرية، ولا نظام معجز، ولا أي مذهب اقتصادي أو اجتماعي معروف.
ما يعنينا في التعليم هو البناء الجماعي فوق تراب المغرب لا في القمر
نحن نخوض في وقت واحد معركة شاملة ومتكاملة، فيجب على شبابنا أن يكونوا متعلمين لكي يعملوا، وعليهم أن يعملوا لكي يتعلموا، وليس عندنا أصحاب امتيازات وحظوة، فنحن جميعا متضامنون لنبني ونعمر، وما يعنينا هو البناء الجماعي فوق تراب المغرب، لا في القمر.
الأسباب التي دفعتنا لإنشاء مدارس الغناء والرقص
شعبنا شعب موسيقي بالفطرة، ولهذا فقد كان مـن الطبيعي أن يتطور الفن الموسيقي في المغرب بكيفية خاصة، وعندنا الآن 18 معهدا موسيقيا، منها ثلاثة معاهد على مستوى وطني، توجـد في الرباط، وتطوان، وطنجـة. وقد أنشئت معاهد موسيقية بلدية أو جهوية في الدار البيضاء، ومكناس، ووجدة، ومراكش، وأكادير، وأسفي، والقنيطرة، والعرائش، والقصر الكبير، بالإضافة إلى 13 «مجمعا ثقافيا» في ردانة، والجديدة، وسطات، والناظور، والحسيمة إلخ… وتعلم الموسيقى الأندلسية بصفة خاصة في فاس، وتطوان، والدار البيضاء إلا أن الموسيقى العربية الصرفة هي التي تستحوذ على نفوس الشباب، كما أن بعض المقطوعات الكلاسيكية الأوربية تستهويهم.
وقد عثرنا في موسيقانا الفولكلورية الجبلية على بقايا «لوازم» يظهر أنها من الموسيقى الشعبية الغالية، والإيرلندية، وبصورة عامة السلتية، وهذا ما لا يجب أن يحير علماء السلالات البشرية، وعلى ملحنينا الشباب أن يجربوا ويطلعوا على موسيقانا الشعبية كما فعل مـن قبلهم بيزيت BEZET وفانسان ديندي Vincent D‘INDY، وتشايكوفسكي TCHAIKOWSKYوبارتوك BARTOUK، وفالا FALLA، وكثيرون غيرهم أفلا يهتدون بهذه النصيحة الودية التي سمحت لنفسي بأن أقدمها إليهم.
لقد أنشئت عندنا مدارس للغنـاء والرقص لغرضين: أولهما الحفاظ على الأصالة والفـن في موسيقانا الشعبية وثانيهما التعريف بها. وإن المعارض، والمهرجانات والمؤتمرات، والمسابقات التي نقيمها تشحذ كلها قرائح فنانينا وصناعنا اليدويين ومواهبهم.
نأسف على الضعف وعلى الذوق السخيف
إن الفن المسرحي المغربي كان على الدوام شعبيا وممتلئا بالحيوية، وهو تقليد آخر من تقاليدنا، وفي كل إقليم من أقاليمنا يوجد فريق مسرحي من الممثلين الهواة الصغار يمثل للكتاب المسرحيين الشباب، ومعظم هؤلاء وأولئك لا تنقصهم الموهبة ولا الجرأة في انتقاد العادات، أو في ممارسة ما كان يطلق عليه منذ عهد قريب اسم «مسرح التسلية»، وتنتقى التمثيليات الأفضل في مهرجان اصطفـاء تشترك فيه فرق الأقاليم وحدها وتفوز بالجائزة الوطنية الفرق والمسرحيات الأفضل، وهذا نوع من المسرح يعتمد على التعبير الشعبي المباشر، ويمكن أن يسمى «المسرح الطلق».
وتؤلف السينما والتلفزيون مركبا عجيبا من الفنون الحرة والفنون الجميلة، وإذا كانا لم يجدا بعد عندنا قدرات فنية معبرة بمستوى هندستنا المعمارية مثلا، فإن السبب في ذلك قد يعود إلى أن بعض متخصصينا متأثرون أكثر مما يلزم ببعض النظريين في حقـل هذه الفنون الجديدة. إن الانتقادات ضرورية ولا غنى عنها عندما تكون إيجابية وبناءة، وحتى عندما لا تتصف بهذه الصفات، يجب أن ينظر إليها بموضوعية لأنها تكشف عن عقلية معينة.
أتمنى صادقا أن يصبح تعاون بلاد المغرب الكبير أوثق في حقل الإذاعة والتلفزيون مما هو عليه الآن، وذلك في إطار «التلفزة المغربية»، وسيكون من المسعد حقا أن نرى عما قريب مسرحيات ذات تأثير مباشر على ثقافة شبابنا «السمعية ـ البصرية» كما يقولون، وقد تحسنت.
وهناك أفلام، تلفزت أو لم تتلفز، تكون مؤامرة حقيقية لا على ثقافتنا فحسب، بل كذلك على كل ثقافات الشعوب المتحضرة، ونحن جميعا متفقون على ذلك، ولأننا نعي وعيا عميقا السينما والتلفزيون في ثقافة الشبيبة، فإننا نأسف على الضعف وعلى الذوق السخيف، وعلى الأذى المتجلي في بعض البرامج غير أننا لا نخلط بين الفن السينمائي والصناعة السينمائية، فخلق صناعة كهذه هي موضع دراسة في المغرب، ولكننا لا نحرق المراحل، ونحن نختار أهدافنا.
إنشاء ملعب إضافي معناه الاستغناء عن بناء مستشفى
التربية البدنية للشبيبة لا تقل حاجة عن الثقافة الفكرية والأخلاقية. وفي هــذا الميدان كذلك، فإن الإبداع والتنظيم مستمران. لقد كان وما زال من واجب الدولة أن تقيم الملاعب، وبرك السباحة والمعاهد الرياضية وأن تضاعف من مخيمات العطل، وأن تقدم المعونات المالية إلى جمعيات الكشافة والنوادي. إن إنشاء ملعب إضافي أو مخيم للعطل، معناه الاستغناء عن بناء مستشفى أو مصحة، وهذا هو المهم.
معظم الألعاب الرياضية تمارسها شبيبتنا، بدءاً مـن الألعاب الجماعية ككرة القدم، والكرة الطائرة، وكرة اليد، حتى الفروسية ولعب السيف، والتزحلق والغولف والتنس، أما الركبي وركوب الدراجات فهي ألعاب رياضية ذات شعبية كبيرة، ولكن فرق كرة القدم التي تشترك في المباريات الدولية والمباريات على كأس العرش أو على البطولة الوطنية، فهي التي تثير الحماس الأكبر عند جماهيرنا.
الشيء الأساسي ـ كما قال بيير دو كوبرتان مؤسس الألعاب الأولمبية العصرية ـ ليـس أن تربح، بل أن تشترك في اللعب، والفرق الرياضية الممثلة للمغرب تشترك على نحو مشرف في هذه الألعاب، كما تشترك في مختلف ألعاب بلاد البحر الأبيض المتوسط، وبلاد المغرب الكبير والقارة الإفريقية. وفي الألعاب الرياضية الصرفة فإن عدائي المسافات البعيدة في بلاد المغرب الكبير هم دوما معروفون في الألعاب الأولمبية بالجد والإرادة ومن الأمثلة على ذلك القمودي التونسي الفائز الأول بمباراة العدو لمسافة 5000 متر في دورة المكسيك للألعاب الأولمبية، والمغربي الراضي الثاني في ركض المسافات الطويلة في دورة روما، والذي جاء مباشرة بعد عداء إفريقي آخر هو سيكيلا SEKILA الحبشي، وأن ما لا شك فيه أن يستطيع شبابنا وشاباتنا الموهوبون للغاية أن يفيدوا من تدريبات طويلة تحت إشراف مدربين أكفاء ليعلموهم التقنيات الجديدة، وهكذا فخلافا لكثير من رياضيي الأمم القوية، فإن رياضيينا هم هواة حقيقيون.
تاريخنا مليء بالبطولات والأحداث الموجعة
من المؤكد أن تاريخنا القديم مليء بالأحداث البطولية والأحداث الموجعة التي يمكن أن تكون مواضيع لأفلام «تجارية» كبيرة، وهناك مناظر مغربية لا تحصى تكون حواشي زخرفية رائعة وطبيعية لا يمكن منعها من أن تكـون ماتعة عند التصوير مهما كانت الزاوية التي تلتقط منها، أو الوسيلة المستعملة لالتقاطها، وإن الشركات الوطنية المؤهلة لتحقيق مثل هذه الأعمال على وجه مقبول ما زالت لم توجـد بعد، وإذا كان كل ما يمكن الوصول إليه هو سماع رجل مشهور من رجالات العالم السينمائي التجاري وهو يصيح سالا سیفه: «نعم يا شباب… ها هو ذا شريف مدينة مراكش، مع راكبي الجمال والفرسان، أبشروا»، ففي اعتقادنـا أن من الأفضل العزوف عن هذا التشويه المضحك باسم الفن المغربي والفن السابع.
من الأليق لبعض النظريين من أبنائنا أن يتأملوا هذه الملاحظة البسيطة التي قدمها ريني كلير René CLAIR عنـدما قال: «إن السينما هي فن تصوير الحركة»، ونحن نعتقد أن هذه الملاحظة ستنير أمامهم الطريق. إن الشبيبة المغربية تتمتع بحس استعراضي، وحس موسيقي، وحس نحو الرقص، وحس مسرحي. ونحن لا نشك في أنه سيأتي يـوم يصبح فيه موهوبون من الشباب العربي والمغاربة الذين يتملكون التقنية لهم شهرة عالمية عن طريق الريبورتاج والأفلام الوثائقية، والأفلام القصيرة، فهذا النوع من التقنيات ليس مجرد تجربة فحسب، ولكنه كذلك أصعب تعبير عن الفن السينمائي وأصفاه.
سيداتنا والرياضة.. تحولن إلى حوريات في أحواض السباحة دون أن يفقدن رشاقتهن
إن ظهـور بناتنا وأصغر سيداتنا في ميادين الرياضة وقد تحولن ـ دون أن يفقدن شيئا من رشاقتهن ـ إلى حوريات في أحواضنا السباحية، وإلى منافسات وهن في ملاعبنـا، وإلی متزحلقات، وفارسات، ولاعبات كرة السلة والتنس، وكرة الطائرة في أماكن أخرى، قد أغاظ مرائينا، لأن عندنا مرائين كذلك، وإن المشاركة الرياضية للشبيبة المغربية هي بمثابة تصديق على انعتاق المرأة المغربية التي حررها محمد الخامس من أغلال التقاليد الجامدة الظالمة التي اختفت إلى الأبد.
وفي أوائل عام 1975 أقيم مجلس علمي من بلاد المغرب الكبير بهدف وضع منهجية لشؤون الشبيبة والرياضة، وهكذا سيصبح من الآن فصاعدا من الممكن الاعداد المشترك ـ وهذا ما أرجوه ـ بين الجزائر وتونس والرباط، لا لمراقبي التربية وأطرها فحسب، بل كذلك لإعداد مديرين لمراكز العطل المدرسية، وأساتذة، وموجهين للمعاهد الاجتماعية – الثقافية، وبذلك يصبح بالإمكان تنظيم العديد مـن اللقاءات الرياضية والفنية والثقافية. إن لنا أن نبتهج بالدور الكبير الذي تلعبه الشبيبة في لقاءات التضامن والأخوة بين أقطار المغرب الكبير.
إن الشبيبة ليست هي المستقبل كما يعيدون ويكررون، بل هي في المملكة المغربية وفي بلاد المغرب الكبير أكثر من وقت مضى من غير شك، حاضر الأمة.