موقف حزب المصباح من التطبيع .. ثابت أم متحول؟


  • حسن بويخف

كنا بصدد إنهاء مقال تحليلي شامل عن سيناريوهات مواجهة إشكالية التطبيع في علاقتها مع المشاركة الانتخابية للأحزاب المناهضة له وخاصة حزب العدالة والتنمية، غير أن كلمة الأستاذ عبد الإله ابن كيران خلال اللقاء التواصلي مع الكتاب الإقليميين لحزبه يوم فاتح يناير الجاري، فرضت اعتبار ما جاء فيها حول موضوع التطبيع، وتخصيصه بهذا المقال، في انتظار مقالنا المشار إليه، ومقالات حول قضايا أخرى تتعلق بمستقبل الحزب.

ولاستحضار أهم ما جاء في تلك الكلمة سنكتفي بالخلاصة التي نشرها الموقع الرسمي للحزب حول ما جاء فيها حول التطبيع. وهي في التقدير خلاصة جامعة. وحسب ذلك المصدر قال الأستاذ ابن كيران:

(نحن ضد التطبيع .. ونتفهم ما وقع من توقيع، ونحن لن نغير موقفنا لأن الاعتداءات الإسرائيلية مستمرة وبدون توقف ضد إخوتنا في فلسطين .. ولكن نتفهم موقف الدولة وأنا لن أدين دولتي رغم ذلك ..  لكن هذه الهرولة غير المفهومة وغير المقبولة للبعض لا نقبلها، والتي وصلت بالبعض إلى حد اعتبارنا مع الإسرائيليين “خاوة خاوة” .. فمنذ متى استبدلنا أخوتنا للفلسطينيين بالإسرائيليين؟  .. دولتنا لها ظروف ونحن نتفهم ذلك).

في عمق تصريح الأستاذ ابن كيران، رغم تأكيده على أنه ما يزال ضد التطبيع، فهو من الناحية السياسية يعبر أيضا عن نوع من “القبول” به. وهذه الخلاصة التي قد تصدم الكثيرين تجد أسسها في كون الرفض الذي يتحدث عنه الأستاذ ابن كيران يتعلق بالموقف المبدئي والنظري العام فقط. لكن حين يتعلق الأمر بتطبيع الدولة ومقاومته، فالموقف السياسي من التطبيع لا يخرج عن دائرة “قبول المُكره” كما سنبين ذلك.

ولبيان ما سبق دعونا نتوقف، من خلال أربعة أسئلة بسيطة، عند كلام سياسي محترف لا يلقي الكلام على عواهنه، ويعتبر خبيرا في صناعة الخطاب السياسي.

السؤال الأول: هل فعلا لم يتغير شيء في موقف حزب العدالة والتنمية من التطبيع؟

كما هو معلوم، فالموقف له شق نظري يتعلق بما في “الكتب” وما في “الرؤوس”، وهذا يمكن القول إنه بقي “ثابتا” ولم يتغير إلى حدود الساعة، أما الجزم بأنه لن يتغير فهذا أمر نسبي وسابق لأوانه، وسوف نعالج ما يتعلق به في مقالنا المقبل المشار إليه. أما الشق العملي المتعلق بمقاومة التطبيع، فالتحول الذي وقع فيه يتعلق بالانتقال من مرحلة التنديد القوي والواضح، والمقاومة الشرسة والشاملة، إلى مرحلة “الكَفّ” أو “التوقف” أو “التعليق” أو “التجميد” أو “المهادنة” أو أشباه هذه الصفات التي سنعتمد الأخيرة منها كأقل تقدير.

لقد كان حزب العدالة والتنمية من أنشط فعاليات المجتمع مقاومة للتطبيع، سواء على المستوى الاعلامي، او على المستوى السياسي في البرلمان وفي البلاغات وفي التصريحات وفي الانخراط الرسمي في الديناميكية المجتمعية المناهضة للتطبيع، … وكانت ردود الفعل ترصد كل أشكال “تسرب التطبيع”، سواء على شكل سلع، او سياح، أو رياضيين، وغير ذلك. وكان التنديد القوي والانتقاد اللاذع والمساءلة القوية توجه لوزارات التجارة والصناعة ووزارة السياحة ووزارة الفلاحة ووزارة الشباب والرياضة، وغيرها… فما الذي تبقى من كل ذلك والتطبيع انتقل من حالة “التسرب” إلى وضع رسمي يشمل كل المجالات تقريبا؟

الأمر لا يحتاج تأكيد أن لا شيء من المقاومة المشار إليها سابقا قد بقي إلى حدود كتابة هذه السطور وقد تجاوز التطبيع الرسمي سنته الأولى. وإنه من المفيد إدراك حقيقة أن موقف الحزب بقي ثابتا على المستوى النظري، لكنه تغير على مستوى الممارسة بالانتقال من المقاومة إلى “المهادنة” كنتيجة لـ”موقف التفهم” الذي سنقف عنده لاحقا.

والخلاصة أن الحديث عن أن موقف الحزب من التطبيع لم يتغير حديث غير دقيق، وسنرى لاحقا ما يؤكد أن “موقف التفهم” الذي فرض ممارسة “المهادنة” سيعمر كثيرا، لأن التطبيع اليوم لا يتعلق بأشكال من التسرب وبوزير وبقطاع حكومي، بل يتعلق باتفاقيات وبالملك وبالدولة. وإذا استحضرنا جدلية النظرية والممارسة، فلا يمكن أن يستمر الوضع طويلا دون أن تتأثر النظرية بالممارسة الجديدة، او تستعيد هذه الممارسة سابق عهدها. فأيهما أرجح؟

السؤال الثاني: كيف يكون حزب سياسي ضد التطبيع وفي نفس الوقت يتفهم موقف الدولة المطبعة؟

معلوم أن كلمة “التفهم” في القاموس السياسي والدبلوماسي تستعمل لتملأ “الفراغات” التي لا تتحمل الوضوح أوالمعاني المباشرة. وهي في كل الأحوال كلمة تحمل قيمة ورسالة “إيجابية” تجعلها تتردد بين القبول الضمني أو عدم الرفض أو الحياد وغير ذلك.

وموقف “التفهم” الذي عبر عنه الأستاذ ابن كيران اليوم ليس جديدا عما عبر عنه عبر “لايف” في صفحته الرسمية بفايسبوك في دجنبر من سنة 2020 على إثر الهجمة الشرسة التي تعرض لها الحزب وأمينه العام بعد توقيع الاتفاق الثلاثي، وهو نفس الموقف الذي أعلنه الحزب في نفس الفترة وبعدها.

وكما سنرى ذلك لاحقا، فـ”موقف التفهم”، له وظيفة سياسية تجاه الدولة التي “لها ظروف”، لكنه لا يجيب عن سؤال جوهري: كيف نعبر عمليا عن الموقف ضد التطبيع في ظل “تفهم” تطبيع الدولة؟ وضد من سنوجهه؟ وهذا السؤال هو الذي يميط اللثام عن “المنطقة الرمادية” في موقف الحزب من التطبيع اليوم. وهو الذي يحتاج جوابا، إضافة إلى الأسئلة الأخرى التي سنتناولها في المقال التحليلي اللاحق.

السؤال الثالث: كيف يرفض الحزب التطبيع ويرفض في نفس الوقت إدانة الدولة المطبعة؟

مفهوم “الإدانة” من الناحية اللغوية يشمل معاني الاتهام والشجب والتأثيم، وتخطئة الآخرين والحكم عليهم. وفي القانون ترتبط الإدانة بالجريمة، وتعني إثبات التهمة وإصدار الحكم وهي نقيض البراءة. ورغم أن الكلمة رائجة بشكل واسع في القاموس السياسي، إلا أنه يصعب تحديد تعريف لها، ويمكن القول إنها تشمل المعاني اللغوية ولكن بحمولة سياسية تستحضر الرأي العام، أي نقل قضية إلى العموم من أجل إدانتها من طرف الرأي العام، مما يجعل لها حساسية فائقة.

من الناحية السياسية نجد في إطار السؤال السابق تمييزا بين مستويين في الموقف من التطبيع، مستوى رفضه المبدئي والنظري العام، ومستوى “التفهم غير المُقاوِم” حين يتعلق الأمر بالدولة المطبعة. وهو موقف غامض جدا من حيث دلالاته في أدبيات مناهضة التطبيع الذي يوجه ضد الجهات المُطبعة، دولا وهيئات وأشخاص. ومن ناحية الممارسة السياسية يشمل رفض “الإدانة”، كما قاربنا تعريفه، عدم الانتقاد أيضا. فالحزب لا ينتقد بشكل رسمي انخراط الدولة في التطبيع، رغم تحذيره من مخاطره. وفي هذا السياق تطرح أسئلة على مستوى الممارسة، من مثل: هل سيواصل الحزب رسميا مشاركته في فعاليات مناهضة التطبيع المُدينة للدولة والتي تنظمها فعاليات مناهضي التطبيع في المغرب والتي يعتبر من أبرز مكوناتها؟ أم سيكتفي باستمرار حضور نُشطائه البارزين فيها فقط؟

لكن “تفهم ظروف الدولة” في موضوع التطبيع يعني “تفهم” الاعتبارات التي جعلتها تنخرط في التطبيع، وحين تتعلق تلك الاعتبارات بالقضية الوطنية، فـ”التفهم” هنا يحمل دلالات أوسع وأكبر، ويمكن إجماله في التقدير في عبارة” لست راضيا ولكن لن أعارض ولن أقاوم”. وهذا يضع الحزب بين سندان “اعتبارات القضية الوطنية” التي تجعله لن يقاوم، ومطرقة صفه الداخلي وديناميكية مناهضي التطبيع التي تمنعه من التعبير الواضح عن موقف “اللامقاومة” ضد التطبيع. لذلك من الطبيعي أن يستمر في التذكير بمواقفه الثابتة السابقة.

ومن الناحية المنهجية فرفض إدانة تطبيع الدولة ينتج عنه بالتبع رفض إدانة اتفاقات التطبيع التي وقعتها الدولة مع إسرائيل والتي ستوقع مستقبلا باسمها، ورفض إدانة ما يترتب عنها من برامج وسياسات تطبيعية، ورفض إدانة انخراط مؤسسات الدولة فيما تقتضيه تلك الاتفاقيات، ورفض إدانة قيام المسؤولين بما يلزمهم من إجراءات وقرارات وأنشطة تطبيعية. وفي هذا المستوى يجد “موقف التفهم” مضمونه العملي الذي وصفناه بـ”المهادنة” على أقل تقدير. وهو ما يفهم أيضا من كلام الأستاذ ابن كيران حين رفض ما وصفه بـ”الهرولة” لدى البعض في تنزيل مشروع التطبيع في المغرب (أي المبالغة في ذلك والحماس له) دون رفضه تنزيل ذلك المشروع المؤطر بقرار الدولة، فذلك يدخل في دائرة “تفهم التطبيع” إذا كان بدون “هرولة”.

ومن ناحية مرجعية الحزب الإسلامية، أكد الأستاذ ابن كيران أنه مادامت إسرائيل تسيئ إلى الفلسطينيين فلا يمكن أن يكون هناك تطبيع أبدا، وأن هذا الموقف ثابت لن يتغير مادامت تلك الإساءة قائمة، “ولن يتغير وليكن ما يكون” كما أوضح ذلك، مشددا على أنه بالنسبة له شخصيا فذلك الموقف عقائدي.

والمواقف العقائدية، من الناحية النظرية والمبدئية، غير قابلة للتغيير. وهذا ما قد يجعلنا أمام نوع من “التناقض” مع ما يفهم من إمكانية التطبيع إذا توقفت الإساءة للفلسطينيين، كما سنرى لاحقا. وورود إمكانية التطبيع إذا ارتفعت أسباب رفضه يجعلنا أمام قضية سياسية وليست عقائدية. ثم إن التعامل بموقف “التفهم”، الذي يترجم عمليا بعدم الانتقاد وعدم الإدانة و”دعه يمر”، لا يناسب القضايا العقدية بالشكل الذي عبر به الأستاذ ابن كيران عن افتخاره بالمواقف العملية الصارمة التي واجه بها الحزب الكثير منها، مثل قضية “خطة إدماج المرأة في التنمية”، والحريات الفردية، والمثلية الجنسية، وغيرها.

وإذا استحضرنا “موقف التفهم”، كما أوضحناه سابقا، سنجد أننا من زاوية المرجعية الاسلامية أمام موقف “أضعف الإيمان” حيث يُكتفى في إنكار “المنكر” بالنية فقط كحد أدنى لغير القادر على القول والفعل. مع العلم أنه لا خلاف في أدبيات الإسلاميين في كون التطبيع من “كبائر المنكرات”. وموقف “أضعف الإيمان” هو “التوصيف الشرعي” الذي قد يناسب رفض التطبيع وعدم إدانة المُطبع.

لكن خطاب الأستاذ ابن كيران لا يذهب إلى هذا المستوى من البيان، ويكتفي بإشهار “لا” كبيرة وواضحة بالقول ” أنا لن أدين دولتي أبدا”. مما يعني أننا أمام خط أحمر يرسمه الأمين العام للحزب لا يُتوقع أبدا تصور تجاوزه مادام على رأس الحزب. وحزب العدالة والتنمية قد ينتقد الدولة أو ينصحها ولكن لا يعارضها ولا يدينها.

السؤال الرابع: ما العمل؟

كلام الأستاذ ابن كيران واضح في تفسير دواعي “ما تبقى” من رفض التطبيع، والذي يتعلق باستمرار إسرائيل في اعتداءاتها ضد الفلسطينيين والإساءة إليهم. وهو ما قد يفهم منه تحميل إسرائيل مسؤولية الاستمرار في رفض التطبيع باستمرارها في الاعتداءات على الفلسطينيين. كما يفهم منه أيضا “بعض التحول” عن الأطروحة الشمولية للإسلاميين عموما في التعاطي مع التطبيع، والتي لا تربطه بالاعتداءات والإساءات بقد ما تؤسس له بما يمكن اختصاره في ربط رفض التطبيع باستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية دون التفريط في شبر منها (من البحر إلى النهر) (مع وجود توجه يقبل بحدود 67).

الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، كما سبقت الإشارة، تناول التطبيع من حيث الموقف المبدئي منه ومن الدولة المطبعة، وهو ما عبرنا عنه بـ”موقف التفهم”، دون مقاربته من ناحية “شكل مقاومته العملية” كما أوضحنا ذلك، ودون مقاربته من الناحية السياسية كحزب سياسي مشارك. ذلك أن التطبيع أصبح اليوم سياسات وبرامج وأنشطة رسمية، مفروض على المسؤولين، وزراء ومنتخبين، التعامل معه من خلالها في إطار التزامات الدولة المغربية المؤطرة بمختلف الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل. وهو ما يعني أن المشاركة في الانتخابات المقبلة تطرح سؤال أفق تلك المشاركة بالنسبة للمسؤوليات التي قد يتحملها الحزب عن طريقها في ظل التطبيع؟ فهل سيشارك حزب المصباح في الانتخابات المقبلة في ظل التطبيع وبأية رؤية وسقف؟ وهل “التفهم” الذي تحدث عنه الأستاذ ابن كيران في تبرير عدم إدانة الدولة أو انتقادها سيكون أيضا أرضية لتأطير مشاركته عبر نتائج الانتخابات في الأجندات التي يفرضها التطبيع دون “هرولة”؟

إن الإجابة عن الأسئلة الأخيرة هي ما قد يحمل الجديد في موقف الحزب من التطبيع وليس في إعادة تأكيد موقفه المبدئي منه، رغم أن هذا الأخير نفسه أصبح مؤطرا بممارسة جديدة في إطار “موقف التفهم” وما فرضه من ممارسات سياسية “مهادنة”، كما أوضحناه سابقا. ومساهمة في إثراء النقاش في الاتجاه الذي يسمح بإثارة الجديد الممكن في الموقف من التطبيع، سنحاول في المقال المقبل بحول الله، مقاربة السيناريوهات الأساسية التي أمام الحزب في مواجهة “إشكالية التطبيع” كحزب سياسي مشارك.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً