مشانق وخردالة ومصّاصو الماء.. مفارقات ومواجع تخفيها ابتسامة شفشاون الزرقاء



يقول قائل “دع الابتسامة أول ما يراه الناس في حياتك” وتقول شفشاون أنا مبتسمة منذ ما يزيد عن خمسة قرون، فمن استنزف مائي وعطّل تنميتي وهمّش أبنائي ودفعهم لركوب قوارب الموت؟.

 

من يزور المدينة الزرقاء لا يرى فيها غير الجمال واللوحة البهية لغرناطة الصغيرة في قلب بلاد جبالة، لكن الأضواء المسلطة عليها تخلف ظلمة في جوانبها حيث يعيش الآلاف من المغاربة موزعين على عشرات القرى يئنون تحت وطأة ظروف صعبة.

 

شفشاون “غرناطة الصغيرة” التي تقول عنها الرواية التاريخية إنها تأسست لتكون أرض لجوء للموريسكيين الهاربين من محاكم التفتيش بعد تسليم آخر مفاتيح الأندلس لحملة الاسترداد المسيحي.

 

شفاشاون، يبدو أن لها قدرا يلازمها منذ نشأتها فقد استقبلت اللاجئين وغلفت مأساتهم بألوان زاهية وسط أرض غابوية وينابيع ماء لا تنضب، ولا تزال إلى اليوم تئن في صمت وتستقبل زوارها بابتسامة زرقاء لا تفارقك من مدخلها إلى ساحة “وطا حمام” وصولا إلى رمز خصوبتها “رأس الماء”.

 

الأسبوع الأول من شهر فبراير 2022 حبست فيه المدينة أنفاسها، حيث وجاء سقوط “ريان” المؤسف في بئر لا ماء فيه على عمق 32 مترا ليجذب الاقليم الذي يحمل اسم حاضرته وجمليته شفشاون، أنظار العالم ويوجه بوصلة المغاربة خاصة نحو مناطق تعيش العزلة وظروفا صعبة لم يكن في مخيال المغربي لمثل هذه الحياة صورة إلا في مناطق الجنوب الصحراوية القاسية. فالاقليم يشهد بشكل شبه يومي حالات انتحار بلغت نسبة قياسية وتجفيفا غير طبيعي للمياه الجوفية بسبب نبتة القنب الهندي “الكيف” وهجرة إضطرارية متواصلة لشبابها نحو المدن الكبرى بحثا عن العيش الكريم.

 

“كيف الخردالة” والطفل ريان وبئر بلا ماء

 

لا يزال صدى تصريح مؤلم أدلت به والدة الطفل الراحل ريان أثناء عملية إخراجه، يتردد في آذان المغاربة حين قالت: “ما شربت منو حتى جغيمة د الماء“، فالحفر لعشرات الأمتار تحت سطح الأرض لا يضمن لك العثور على ماء في المخزون الجوفي، وحسب مذكرة للمندوبية السامية للتخطيط صادرة سنة 2018 فإن 6,5 في المئة فقط من الساكنة القروية مزودة منازلها بالماء الصالح للشرب حتى سنة 2014، وما يقارب 70 في المئة منهم يتزودون بمياه الآبار والمنابع والأنهار.

 

ويقول محمد الرابون رئيس كونفدرالية جمعية إقليم شفشاون، إن “ندرة المياه في المغرب كافة ولكن لماذا بالضبط في إقليم شفشاون، اولا في كل بيت تقريبا بئر ساندا للتزود بالمياه لأن في هذه المنطقة لا توجد سدود للأسف مثل أقاليم مجاورة نذكر منها تاونات ووزان وتطوان، رغم أن الإقليم الذي ننتمي إليه يشهد هطولا للأمطار بغزارة كل سنة وفيه منابع مائية وفيرة… وهذه مناسبة لتوجيه رسالة إلى الجهة المسؤولة لبناء سدود هنا”.

 

ويقول محمد الرابون رئيس كونفدرالية جمعية إقليم شفشاون: “… يعيش المغرب قاطبة على وقع إجهاد مائي غير مسبوق، لكن حال إقليم شفشاون أكثر سوءا، ففي كل بيت تقريبا في القرى المحادية للمدينة تعمد كل عائلة لحفر  بئر خاص بها للتزود بالمياه، ففي هذه المنطقة لا توجد سدود للأسف مثل أقاليم مجاورة على غرار تاونات ووزان وتطوان، رغم أن الإقليم الذي ننتمي إليه يشهد هطولا للأمطار بغزارة كل سنة وفيه منابع مائية وفيرة”.

 

الرابون متحدثا لـ”الأيام24” يرفض الاختباء وراء مسميات أخرى ويمضي في تفسيره لهذه المشكلة قائلا: “… أغلب السكان يعيشون من عائدات زراعة الكيف، لكن هذه النبتة تحتاج لكميات كبيرة جدا من الماء، إضافة إلى تشديد الدولة في إجراءات محاربة هذا النشاط لأجل تقنينه. وأمام ندرة المياه السطحية كان اللجوء المكثف إلى حفر أثقاب مائية (آبار السانداسببا في تجفيف المخزون الجوفي للإقليم”.

 

… الجماعات الترابية القريبة من البحر مثل “بني رزين” و”بني سمح” لم يعد يصلها الماء، ويبقى المواطن الفقير هو الضحية، فلا قدرة له للحفر في عمق الأرض ولا ماء له للسقي، فيضطر لقطع عشرات الكيلومترات للعودة ببعض اللترات، وبالتالي تُنَمِّي هذه المشاكل ظاهرة الهجرة خارج الاقليم بحثا عن مورد رزق قار، ويُعَبِّر عن هذا الواقع المر ما قالته والدة الطفل الراحل ريان عن البئر الذي حفره زوجها لعمق 32  مترا ووجده جافا: “ما شربت منو حتى جغيمة د الماء “.

 

جفاف الآبار الذي تعاني منه شفشاون حذرت منه منظمة الزراعة والأغذية “فاو”، التابعة للأمم المتحدة، التي تحدث في أكثر من تقرير لها عن النشاط المفرط الذي يشهده المغرب في استخراج أكثر من نصف المياه الجوفية، ورسمت صورة قاتمة لمستقبل السائل الذي جعل الله منه كل شيء حي، وقالت في تقرير نشرته بعنوان “نظرة إقليمية عامة حول الأمن الغذائي والتغذية في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا لعام 2017”، إن المغرب يستخرج 833 مليون متر مكعب من المياه سنويا من الآبار الجوفية دون وجود روافد تغطي هذا الاستهلاك.

 

حاولت “الأيام24” التواصل مع واحد من الذين وجهت لهم أصابع الاتهام في أزمة المياه، ويتعلق الأمر بمزارعي “الكيف”، فأوضح بعدما تحفظ عن كشف هويته أن الكبار الذي يسيطرون على هذه التجارة تعمدوا استبدال بذور “العشبة البلدية” المحلية بأخرى هجينة ومعدلة جينيا تعود عليهم بمحصول أكبر وأرباح مالية أكثر بعشرة أضعاف، فدخلت إلى المغرب أصناف من أشهرها “الخردالة” و”المكسيكية”، والفرق بينها وبين الصنف المغربي أنها تحتاج رياًّ مستمرا، دفع أغلب المزارعين إلى الاستعانة بمضخات قوية لجلب المياه من الأنهار والآبار العميقة.

 

 

يبدو إذن أن “الخردالة” و”المكسيكية” تقود إقليم شفشاون نحو سنوات من العطش تحول مروج “غرناطة الصغيرة” إلى صحراء لا تختلف عن “فم زكيد” و”محاميد الغزلان” إلا بلكنة سكانها، وفي هذا يقول محمد الرابون متنذرا : “النصف من السكان هنا مبحوث عنه بسبب تهمة زراعة الكيف والنصف الآخر ينتحر فهل سنبقى على هذا الحال إلى أن ينقرض الشفشاونيون ؟”.

 

وسجلت مذكرة المندوبية السامية للتخطيط نسبة فقر في الاقليم أعلى من جهة طنجة تطوان الحسيمة كاملة، ففي إقليم شفشاون تم رصد تفشي الفقر بنسبة 21,20 في المئة مقابل 11,14 كمعدل في الجهة.

 

سم ومشانق وفواجع تخترق هدوء المدينة الزرقاء

 

بمجرد البحث عن شفشاون في موقع “غووغل” يقترح عليك المحرك المئات من المقالات والصور أغلبها منشورة في مواقع للسفر والسياحة تتحدث عن المنطقة وتعدد صفاتها، وأولها الهدوء ونقاء الجو وجمالها الساحر وروعة التجول بين دروبها، لكن هذه الصورة التي يفرضها التسويق لشفشاون كوجهة سياحية عالمية تخدشها ظاهرة لا تفسير يقيني لها ويتعلق الأمر هنا بالانتحار، فالأخبار أصبحت تأتي من هناك حاملة معطيات مؤلمة عن شاب أو شابة أو حتى رجل مسن وضع حدا لحياته، مما يجعل هذه الظاهرة محيّرة حقا.

 

وفي دراسة أنجزها الباحث المغربي يونس الجازولي، نجد أن من أصل 22 حالة انتحار سجلت وطنيا في الفترة ما بين 20 مارس و20 أبريل 2020، تضم جهة الشمال أكثر من 54 بالمئة من مجموع الحالات، 70 بالمئة منها سجلت في إقليم شفشاون.

 

محمد الرابون في حديثه مع “الأيام24″ يرى أنها “ظاهرة لم تعد غريبة على إقليم شفشاون، بل أصبحت عادية يستيقظ على ايقاعها الشفشاونيون بشكل شبه يومي، ففي هذا الأسبوع تم تسجيل حالتي انتحار، الأول شنقا والثاني بسم الفئران”. ويتابع: “… مع الأسف، مثلا هذه الحالة أعرفها شخصيا، هو رجل لديه أحفاد أصبح بدون مدخول وتضخمت مديونيته وهناك الكثيرون من أمثاله يعيشوه الوضع نفسه، يعيشون بدون ربط بالكهرباء وشبكة الماء الصالح للشرب، والمثير للانتباه هنا هو أن كل الحالات المسجلة تقريبا تقطن في البوادي وليس في شفشاون المدينة”.

 

أما الباحث في علم الاجتماع، عبد ربه البخش، فيذهب في تصريح لـ”الأيام24” إلى أن لظاهرة الانتحار “أسبابا عديدة ومتعددة، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية غير أن هذه الأسباب موجودة بباقي مناطق المغرب بشكل أو بآخر.

فلم تفشي ظاهرة الانتحار بشمال المغرب خاصة إقليم شفشاون..؟

 

ويسترسل محدثنا في الإجابة عن هذا السؤال: “… إن هذه الأسباب لوحدها غير فاعلة في ظاهرة الانتحار ما لم تتغذى بعامل آخر أسميه ثقافة الانتحار على غرار ثقافة الفقر عند السوسيولوجي الأمريكي لويس أوسكار”.

 

ثم يوضح أن “الأشخاص الذين يحاولون أو يقدمون على الانتحار هم أشخاص يتقاسمون نظاما معقدا من المعتقدات وردود الأفعال وأنماط السلوك التي يواجهون بها صعوبات الحياة اليومية، تبدأ من الشعور بالعجز واليأس وتمر من التفكير في الانتحار وتصل إلى إرادة الموت ثم الانتحار. إن هذه الثقافة تتجلى في بعض العبارات المتداولة عند هؤلاء الاشخاص “عنعلق راسي، الله يرفدنا من هد الأرض، الله يجعلها دفنى…”

 

ويخلص عبد ربه البخش إلى أن الانتحار ليس نتاج أزمة اقتصادية أو مشكلا اجتماعيا أو مرضا نفسيا أو بيئة طبيعية فقط “بل هو نتاج بيئة ثقافية يتشرب فيها الطفل هذه الثقافة عبر قنوات التنشئة الاجتماعية. وعليه يمكننا أن نقضي على أزمة اقتصادية ونحل مشاكل اجتماعية ونعالج أمراض نفسية لكن لن نقضي على الانتحار ما دمنا لم نقضي على ثقافة التعاطي للموت أو الانتحار”.

 

مفارقة شمال الشمال وجنوب الشمال

 

كانت حادثة الطفل ريان وراء كشف مشاكل إقليم شفشاون التي حجبتها الصورة النمطية في مخيلة المواطن المغربي عن الشمال والجنوب، فكلما اتجهت شمالا تتوقع حياة أكثر رفاهية وأما إذا سلكت طريق الجنوب فتنتظر أن تلاقي أوضاعا مزرية.

 

ففي تقدير الباحث في علم الاجتماع عبد ربه بخش، يمكن فهم وتحليل هذه التمثلات تبعا لسياقين، السياق العام الذي يرتبط بالتصنيف الاقتصادي الذي قسم العالم إلى دول الشمال ودول الجنوب، فالشمال يحيل في هذا الاطار على التقدم والازدهار والغنى والتحضر، في حين يحيل الجنوب إلى التقهقر والفقر والتخلف.

 

أما السياق الخاص فيتمثل في طبيعة الأنشطة الاقتصادية بمناطق شمال المغرب، وهي أنشطة تقوم في مجملها على زراعة الكيف والتجارة في المخدرات والتهريب المعيشي والهجرة إلى أوروبا. إن هذه الانشطة في التمثل العام تحقق إرادات مالية مهمة وأرباحا خيالية مقارنة بالأنشطة الاقتصادية المعيشية خاصة الفلاحة المنتشرة بمعظم قرى وسط وجنوب المغرب.

 

وتبعا لهذا التصنيف يقول في تصريحه لـ”الأيام24″ يمكن تصنيف الشمال أيضا إلى شمال الشمال “طنجة أصيلة، الفحص أنجرة، المضيق الفنيدق، تطوان”، وجنوب الشمال “وزان،شفشاون، تارجيست، تاونات…”.

مقالات مرتبطة :

تعليقات الزوار
  1. حميد الشفشاوني

    شكرا لكم على الالتفاتة لمشاكل الاقليم

اترك تعليق


إقرأ أيضاً