طارق بن زياد في الرباط

طارق بن زياد انتهى بعد فتح الأندلس التي بقي فيها حكم المسلمين ثمانية قرون، ولم يأخذ بعد انتصاره شيئا حيث دعاه الخليفة إلى دمشق فتوفي أو قتل هناك، وهذه أيضا من ألغاز التاريخ، إلا أن هذا القائد العسكري ظل حيا، وهو في هذا الرمضان في القرن الواحد والعشرين أكثر حضورا من بعض الأحياء الذين ينثرون الخزعبلات وينسجون التفاهة والخواء.

نور الدين مفتاح [email protected]

ما إن غادر السيد بيدرو سانشيز الرباط بعد استمتاعه بحريرته الملكية على أنغام الموسيقى الأندلسية، وإمتاعه للمغاربة بمواقفه السياسية الشجاعة التي أعادت للعلاقات بين المغرب وإسبانيا نضارتها، حتى عادت الأزمة في جبل طارق من ثقب الباب ! لقد شاءت المصادفات أن يحرك مسلسل تلفزيوني تاريخي مسلمات الماضي المعقد بين هذا المغرب الأقصى والمشرق القصي على أرض الأندلس، وفي كل يوم صوم مع اقتراب استئذان قرص الشمس الذهبي في المغيب لا تسمع إلا سبتة وطليطلة وطنجة والسيوف والمناورات والدسائس والبطولات والانتصارات والهزائم في سرد تاريخي حمال لوجوه عديدة.

وإذا كان هناك من حسنة لمسلسل «فتح الأندلس» الذي كلف ثلاثة مليارات من السنتيمات، فإنها بالضبط موجة السخط العارمة التي فجرها داخل فئات مختلفة من المجتمع المغربي. لقد أزعج طمأنينتنا التاريخية حتى ولو لم يكن متقنا فنيا ومحكما توثيقيا. وإذا كان من المفروض أن تكون للأمجاد أوتاد ضاربة في الأرض، فإن أمجادنا في هذا المضمار بدت هشة، مما جعل البعض يعتقد أنها تحتاج للاستنفار من أجل حمايتها، وهكذا وصلت قضية المسلسل إلى المحكمة من خلال دعوى قضائية رفعت ضده من طرف محام بهيئة الرباط، كما وصل إلى المساءلة البرلمانية من خلال سؤال تم توجيهه للسيد وزير الثقافة والشباب والتواصل.

هذا العمل التلفزيوني يحكي قصة فتح الأندلس سنة 711 ميلادية بقيادة طارق بن زياد الذي كان يعمل تحت سلطة موسى بن نصير والي دولة الخلافة الأموية على افريقية خلال حكم الخليفة الوليد بن عبدالملك، ويغوص في تفاصيل محاولات اقتحام سبتة من طرف طارق بن زياد التي كان يحكمها يوليان قبل أن يعقد القائدان اتفاقا سيفضي إلى قرار عبور مضيق جبل طارق والانتصار على جيوش الملك لوذريق حاكم شبه الجزيرة الإيبيرية آنذاك.

إن الأسئلة الحارقة لهذه الحقبة الذهبية في المخيال العام للمسلمين عادت أكثر التهابا، ومنها علاقة طارق بن زياد المتوترة مع موسى بن نصير وحقيقة إحراق بن زياد لسفنه بعد العبور ومصير هذا القائد الهمام حيث استدعي إلى دمشق ولم يعد أبدا. ولكن الذي استفز المغاربة عموما هو مسلّمة بسيطة بدا أنها ثقيلة في الوجدان العام وهو تصوير طارق بن زياد على أساس أنه عربي مشرقي في حين أنه في كتب التاريخ الرسمية التي قرأتها أجيال متعاقبة هو أمازيغي، وثانيا هو تصوير هذا الجيش الذي سيقوم بأحد أكبر الفتوحات في تاريخ المسلمين على أساس أنه جيش قادم من المشرق بلباسه ولغته وسحنته في حين أن الذين دخلوا الأندلس وهزموا لوذريق كانوا مغاربة أمازيغ لهم هويتهم ولغتهم ولباسهم وعاداتهم، وهذا اعتبر سطوا من منتجين فنيين مشارقة على رأسمال تاريخي مغربي !

وإذا كنا نؤاخذ على مخرج مسلسل «فتح الأندلس» بعض الاستسهال في الأخذ بزمام أمر تاريخي جدي لدرجة أنه صور فاكهة الأناناس كجزء من مائدة قدمت لطارق ابن زياد وهي لم تظهر إلا قرونا من بعد، فإن القضايا التي يثور من أجلها بعض الساخطين على مشرقة تاريخ مغربي تعتبر قضايا غير محسومة، وعندما تم تلقينها لنا بالشكل الذي نعرفه، أصبحنا كمن يملك أصلا تجاريا محفظا، والتشكيك في هوية طارق بن زياد، مثلا، هو بمثابة محاولة السطو على ملكية مشتركة. وقد كان بليغا الباحث في التاريخ الأندلسي محمد رضى بودشار عندما قال في حوار مع «الأيام» ضمن هذا العدد: «طارق بن زياد أصبح صانعا للحاضر مع التجاذبات التي تخص أصله حيث صار حاليا مفتاحا لمنح المعنى لهويات راهنة أكثر من الاهتمام بهويته هو في حد ذاته».

إن أي عمل فني في هذا المضمار لا يمكن إلا أن يكون رواية ضمن الروايات للتاريخ، وليس مطلوبا من المنتج أو المخرج أن يكون مؤرخا، إلا أن هذا التصادم بين الهويات الراهنة هو الذي ينتج مثل بعض ردود الفعل القوية التي نعيشها في هذا الشهر الكريم: بيننا وبين إخواننا في المشرق، وبيننا وبين إخواننا الألداء في الشرق، حيث إن الجزائر الكريمة تعتبر طارق بن زياد أيضا جزائريا ! كما الشيخ التيجاني والكسكس والقفطان والطرب الغرناطي… وبيننا وبعض إخواننا الأمازيغ الذين يعتبرون العرب غزاة وليسوا فاتحين وأن موسى بن نصير وعقبة بن نافع قاتلان وناهبان وكسيلة قاتل عقبة بطل وطارق بن زياد قناص غنائم. باختصار، وخارج ما يطفو على السطح من تفاعلات عاطفية غاضبة على رواية تلفزيونية مشرقية لجزء من تاريخ مغربي، فإن القضية، وبدون مسلسل، مشتعلة ولكن نطبق عليها ما ينطبق على الجمل المغربي الأثير الذي يفضل أن يُتركَ إذا بَرَك !

طارق بن زياد انتهى بعد فتح الأندلس التي بقي فيها حكم المسلمين ثمانية قرون، ولم يأخذ بعد انتصاره شيئا حيث دعاه الخليفة إلى دمشق فتوفي أو قتل هناك، وهذه أيضا من ألغاز التاريخ، إلا أن هذا القائد العسكري ظل حيا، وهو في هذا الرمضان في القرن الواحد والعشرين أكثر حضورا من بعض الأحياء الذين ينثرون الخزعبلات وينسجون التفاهة والخواء. وإذا تبين اليوم أن المغاربة مرتبطون بتاريخهم غيورون عليه فالأحرى أن تسخر وسائل الإنتاج الضخمة لإحيائه والاحتفاء به وتعزيز هوية الحاضر بالماضي المجيد بدل أن نصرف الملايير على إنتاجات سيتكومية أو درامية هزيلة لا تشبه المغاربة في شيء، وحينها يمكن أن نقدم روايتنا للإمبراطورية المغربية الشريفة من حدود مصر إلى نهر السينغال إلى الأندلس، فواهم من يعتقد أن للتاريخ مقبرة، وها نحن اهتز منا الفؤاد على طارق بن زياد وها هم هناك إلى اليوم في غرناطة وفي كل سنة يحتفلون يوم 2 يناير بإيزابيلا الكاثوليكية التي أسقطت آخر الحكام المسلمين بالأندلس سنة 1492 ولعمري إن هذا الأمر ليحتاج إلى عناية خاصة لكي لا يكون الماضي آفة الحاضر بحيث يمكن أن يكون للاسترجاع عنوان مستقبلي هو تدافع الأمجاد من أجل تعانق الأحفاد، ورحم الله الأبطال وزمن البطولات.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً