بنت الشيخة

إن الذي يجب أن يؤلم في هذه القضية التي أخذت أبعادا سوريالية هو هذا الغطاء الذي رفعناه عن القِدر المجتمعي فأحرقنا بخاره الساخن. أكلّ هذا يعتمل داخل مجتمع مغربي حسبناه مشدودا إلى الغرب مشدوها به؟

نور الدين مفتاح [email protected]

نطوي رمضانا آخر والأيام تجري. وحيث إننا اعتدنا في المغرب على أن لكل شهر فضيل قضيّة كبرى، منذ قضية الكوميسير ثابت التي تفجرت سنة 1993، فإن هذا الرمضان لم يخرج خاوي الوفاض، وكادت أن تكون له قضيته مع متابعة طبيب التجميل الدكتور التازي وزوجته الشهيرين بتهمة الاتجار بالبشر، إلا أن القضية خَبت في المهد على الرغم من أن قرينة البراءة فيها ذبحت، ومع ذبحها خرج من القمقم نقيضها وهو نظرية المؤامرة، وسارت الركبان تصنع سيناريوهات أفلام استهداف طبيب المشاهير، واستخلصنا أن انفجار وسائل التواصل الاجتماعي بدون وسائط في بيئة ضعيفة التعليم لا يمكن أن يؤدي أبدا إلى المزيد من الدمقرطة، ولكن يؤدي إلى تهديد التعايش في إطار مجتمع متحضر مبني على ضوابط القانون وحقوق الإنسان.

ولعل هذا بالضبط هو ما جرى مع القضيّة التي يمكن اعتبارها قضية رمضان 2022 بامتياز. إنه تصريح لرجل لم يكن معروفا بشكل واسع، وربما هو داعية، يدعى ياسين العمري، ففي إطار إحدى مواعظه، عرج على مسلسل «لمكتوب» الذي تبثه القناة الثانية بعد الإفطار ويتحدث عن معاناة شابة داخل المجتمع بسبب مهنة أمها «الشيخة». وقال الداعية إنهم «طالقين لعباد الله كلب من كلاب الإعلام، طالقين واحد المسلسل ديال الشيخة. حنا المغاربة، المرأة فضلا عن الرجل حين تسمع كلمة شيخة لحمها كيشوّك، وهم يريدون أن يطبعوا عباد الله مع هذا المنكر».

كان هذا الكلام سيمر بشكل عادي في إطار تفاعل الناس مع دراما تلفزيونية وهذا من صميم حرية التعبير، إلا أن الذي حوّل الموضوع إلى قضيّة رأي عام هو هذا الفيضان في التوافق مع رأي الداعية، والهيجان في مواجهة من ردّ عليه، أو انتقده، أو عبر عن وجهة نظر مخالفة له. والمفارقة العجيبة في المغرب الحبيب هي أنه في نفس الوقت الذي كانت حلقات المسلسل تحصد ملايين المتابعات في رقم قياسي جديد لعمل فني رمضاني، في نفس الوقت الذي كانت تصب عليه الملايين في مواقع التواصل الاجتماعي جام غضبها بلا قيود ولا حدود لدرجة وصلت إلى التهجم على الزميل حميد المهداوي بشكل خطير في عرضه وشرفه وشرف أسرته، لمجرد أنه أدلى برأي في الموضوع بكل احترام واتزان، واختلف مع الشيخ العمري، ونصبت في النهاية المشانق في الساحات. والغريب أيضا أن الذين خرجوا يدافعون عن الأخلاق والطهرانية، الكثيرون منهم استعملوا كلمات وسخة وتعبيرات قذرة، ونزعوا إلى الكراهية وغريزة الانتقام، وأضحت الشيخة في الساحة العامة لهذا النقاش الخطير كجيفة خرافية تزكم رائحتها أنوف شعب بدا أنه ممزق وبدون بوصلة وللأسف.

لقد عاش فريق مسلسل «لمكتوب» صدمة رمضانية بامتياز. فبعدما سبَحوا في انتشاء نجاح كبير لأسبوعين، ورغم بعض الملاحظات حول التمطيط والإيقاع في المسلسل، فإن النجاح مستحق في نظري وخصوصا للممثلين الذين أضفوا على السيناريو قوة مذهلة، ومنهم دنيا بوتازوت في دور الشيخة حليمة وهند بنجبارة في دور بنت الشيخة وأمين الناجي في دور زوج بنت الشيخة ومريم الزعيمي في دور ضرة بنت الشيخة. وبعدها دخلوا في كابوس الأحكام الجاهزة التي كسرت حلاوة النجاح بعد موجات الغضب الساذج التي جرتها تصريحات الشيخ العمري. والغريب مرة أخرى أن هذا الشيخ نفسه صدم في نهاية المطاف بالحجم الذي وصلت إليه كرة الثلج التي كان هو أول من دحرجها، حيث قال قبل أيام: «الذي آلمني كثيرا هو هذا المنزلق الذي وقع فيه بعض من تحمس لمساندة هذا العبد الضعيف، فإذا بهم يقعون في السب والشتم واللعن، وهذا ما لا يرضاه الله ولا رسوله (ص)».

إن الذي يجب أن يؤلم في هذه القضية التي أخذت أبعادا سوريالية هو هذا الغطاء الذي رفعناه عن القِدر المجتمعي فأحرقنا بخاره الساخن. أكلّ هذا يعتمل داخل مجتمع مغربي حسبناه مشدودا إلى الغرب مشدوها به؟ أكل هذا يحدث في بلاد الإسلام الوسطي المعتدل ومملكة الانفتاح؟ أكل هذا يدور في أحشاء مجتمع يبدو أحيانا للبعض منفتحا أكثر من اللازم ولبعض المتشددين متفسخا؟ أكنا واهمين ونحن نعتقد أن التطرف في المحافظة هو شأن «كمشة» معزولة وسطنا وأن غالبية الناس تعيش على إيقاع القيم الكونية لحقوق الإنسان، وتعيش دنياها ودينها بدون تشنج؟

للأسف، ما عشناه رهيب، فكل هذا النموذج المجتمعي الذي نفاخر به في إطار تعايش خلاق بين الحريات الفردية والمحافظة المنفتحة بدا هشا حول موضوع من المفروض أن يكون محسوما وهو من طبقتين، الطبقة الأولى هي حرية الإبداع، فالأمر في البداية والنهاية يتعلق بمسلسل متخيل لا يلزم إلا من تخيله وهو ليس برنامجا سياسيا أو توجها إيديولوجيا لحزب يقترح أن يحكمنا، والمصيبة أن هذا الهامش من الحرية الذي قضمه الهائجون هو الشرط الأول لنهوض صناعة فنية في بلادنا كما جرى من قبل مع المصريين وبعدهم السوريون قبل الحرب ثم الأتراك في عالمنا الإسلامي، وإذا سقط الشرط الأول فلا داعي للحديث عن الشروط الأخرى المتعلقة بالإمكانيات المادية والإتقان وشروط الحكامة في انتقاء الأعمال. أما الطبقة الثانية فهي أخطر، لأنها مرآة للسيكولوجية العامة لمغرب يعيش غارقاً في الازدواجية. هذا شعب يرقص في الأفراح على إيقاع الشيخات ويطلق أصواتهن تصدح في الأسواق وفي وسائل النقل وفي السهرات العمومية، والشيخات معززات مكرمات في الأعراس والمواسم والمهرجانات ومنهن من وصلن إلى المجد ووقعن على خالدات وأسماؤهن ضمن التراث اللامادي للمغرب كالشيخة حادة الزيدية الغياتية التي قتلها القائد عيسى بن عمر والمعروفة بخربوشة، وفي نفس الوقت هذا شعب يخلط في المخيال العام بين الشيخة والعاهرة، ويوجد ضمن قاموس سبابه بالعامية اسم «الشيخة» يحقر به الناس في الخصومات. هذه السيكيزوفرينيا هي التي عبر عنها بشكل موفق جدا الزميل والصديق حسن نجمي في أطروحته للدكتوراه التي خصصها لفن العيطة حيث قال: «لو تأملنا في العمق، سنجد أن الشيخة تستمد قوّة حضورها من الجماعة، وفي نفس الآن تستمد من الجماعة ضعفها، إنها تصنع وتزرع الفرح في نفوس الأفراد والجماعات، وتتلقى منهم، في المقابل بكيفية مفارقة، ما يخدش صورتها ويجرح كيانها الداخلي، ذلك لأن المجتمع يعيش حالة انفصام بسيكولوجية بين الانشداد إلى التطهرية الزائفة، أو نفاق المظهر الأخلاقي وزيف الوقار الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق حاجاته الاجتماعية والثقافية والفنية، ومن ثم أصبح المكان الذي تزدهر أو تنتصر فيه الشيخة، هو نفسه مكان خسارتها»!

لا كلام أوضح ولا أعمق من هذا لتفسير ما جرى في قضية هذا الرمضان الكريم ولكن أريد أن أضيف عاملا آخر معززا أو مقويّا لهذا المرض المجتمعي، وهو قوة وسائل التواصل الااجمتاعي الجديدة، لقد لعبت في موضوع انفصام شخصيتنا دور مكبر الصوت أو الشاشة الخرافية التي نشرت أعطابنا السيكولوجية على العالمين. ورب ضارة نافعة، فمن جهة، إذا كان أول العلاج هو وضع اليد على المرض والاعتراف به فهذا قد حصل، ومن جهة أخرى، إذا كان الذين يعتقدون أن التأثير الإيجابي في المجتمع سيأتي من مواقع التواصل الاجتماعي، فهم واهمون لأن هذه المواقع بدون بنية ثقافية سليمة وحسم مجتمعي مع ذاته وقيمه ستبقى حلبة رومانية للمصارعة حتى الموت، وهذا بالفعل يهدد تماسك اللحمة المجتمعية.

وعيد مبارك سعيد.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً