فيلم رعب هتشكوكي

نحن الرقعة الأكثر دمارا في العالم اليوم، فليبيا بلا دولة وسوريا خراب والعراق المجيد مجرد ذكرى أمجاد، واليمن ممزقة ولبنان منهار والسودان مزعزع الوصال وفلسطين في جيب التجار، بلا دولة ولا أفق. ووصل الأمر بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أن اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والقدس اليوم تدنس أمام أنظار العالم فكيف تريدون من فرد منا أن يتخشع لخطاب رئيس أمريكي حول الإنسانية وهو يدعو إلى التنديد بالهجمة الروسية على أوكرانيا؟

نور الدين مفتاح [email protected]

تلعب بنا الأيام، وتفعل ما تشاء. ومهما بلغت قوة الإرادة، فإن قوة الواقع تجعلنا مساقين إلى أقدارنا، وإلى قوى كبرى، فقوى أكبر، فأكبر من الأكبر، تماما كما هي لعبة الدمى الروسية المتداخلة. وأما وأننا في عالم هو الأخطر اليوم على الإطلاق في تاريخ البشرية، فإن هذا الخضوع يأخذ كامل مداه. وأكبر من يتمتع بالأنفة منا يستطيع فقط أن يتجنب مهانة الخنوع، وأما هذا الخضوع لقوى أكبر من السيادة والإرادة فهو سمة العصر التي نظّر لها مفكرو الاستخبارات العالمية المهيمنة، وفي النهاية، حتى هذه الأقطاب المتطاحنة لا يمكنها أن تفلت من تقلبات الوضع الذي تساهم في صنعه. إنه فيلم رعب هتشكوكي بكل ما في الكلمة من معنى.

استطاعت البشرية خلال أكثر من سبعين سنة على اندحار النازية أن تعمل على صياغة قيم جديدة متقدمة على كل ما سبق، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتحريم التوسع العسكري وشطب الاستعمار، والاحتكام للقانون الدولي ونشر الديموقراطية في رقعة عالمية هي الأكبر في التاريخ. واستطاعت الثورة التكنولوجية والبحث العلمي أن تمدد أمل الحياة للأفراد وأن توسع من رفاهية العيش وأن تخلق لأول مرة في التاريخ أيضا تشبيكا للأفراد عبر الأنترنيت يكسر الحدود والحواجز ويعطي لكل فرد حق التعبير الجماهيري. لقد بدا في النهاية وكأننا تغلبنا على الطبيعة وربما طوعنا القدر حتى صارت أحلام الأولين واقعا معيشا للآخرين، وفي هذا جزء من الصحة.

إلا أن هذا التاريخ الجديد بعد الحرب العالمية الثانية لم يكتبه إلا المنتصرون، وبالتالي كانت في طيات كل هذا التقدم الهائل مآسي ناتجة عن مؤامرات صراع الكبار، واستمرت الحرب الكونية بشكل بارد، وتركت قارات ضمت ما يسمى بالعالم الثالث تعيش الخصاص والجوع والحروب، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية خصوصا، وكانت مخلفات التقسيمات الاستعمارية كارثية على مصائر الدول والشعوب، ونحن ذقنا ونذوق من هذا لحد الآن في قضية صحرائنا.

أصبحت البشرية منقسمة إلى قسمين كبيرين، واحد متقدم يبعد بسنوات ضوئية عن ثان متأخر أو متخلف، حسب تسميتهم، والغريب أنه مع القيم الكونية للتعايش لم نستطع أن نخلق السلام بين الديانات السماوية الثلاث، وانفجر التطرف وازدادت فجوات التباعد، وفي نفس الوقت الذي سجلنا غزارة الإنتاج حول حوار الحضارات في نفس الآن الذي لا نسمع إلا الأصوات الناجمة عن الاصطدامات الحضارية، وأقدمها وأخطرها هو الصراع في الشرق الأوسط الذي يعتبر اليوم برميل بارود العالم.

هذا العالم الجديد بكل ما زاده من لمسات مظهرية على تحضره، لم تستطع قواه الكبرى أن تتخلى عن افتراسيتها. أمريكا ظلت متربصة بالمعسكر الشيوعي إلى أن سقط في 1989، والمستعمر القديم مازال يقاتل من أجل استمرار نفوذه في مستعمراته السابقة اقتصاديا وثقافيا، والصراع على أشده حتى بين الحلفاء الغربيين في أوربا وأمريكا، ولكنه مقنّع أو مؤجل لأن هناك هدفا مشتركا أكبر وهو تنحيف الدب الروسي وتحجيم الغول الصيني. صحيح أن هذا المعسكر الناجم عن التربة الشيوعية مازال عموما شموليا، ولكن القيادة في معسكر الحرية زعزعت طمأنينة التاريخ عندما فقدت الولايات المتحدة الأمريكية شرعيتها الأخلاقية ومزقت القانون الدولي أكثر من مرة، ودبرت انقلابات وسطرت اغتيالات وأشعلت حروبا من أجل مصالحها لا باسم قيمها، وربما نحن هنا في العالم العربي الإسلامي أكثر تجرعا لهذه المرارة في العراق وفلسطين وما جاورهما من ضحايا «الفوضى الخلاقة» سيئة الذكر.

نحن الرقعة الأكثر دمارا في العالم اليوم، فليبيا بلا دولة وسوريا خراب والعراق المجيد مجرد ذكرى أمجاد، واليمن ممزقة ولبنان منهار والسودان مزعزع الوصال وفلسطين في جيب التجار، بلا دولة ولا أفق. ووصل الأمر بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أن اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والقدس اليوم تدنس أمام أنظار العالم فكيف تريدون من فرد منا أن يتخشع لخطاب رئيس أمريكي حول الإنسانية وهو يدعو إلى التنديد بالهجمة الروسية على أوكرانيا؟

نعم، الرئيس فلاديمير بوتين اعتدى على دولة ذات سيادة، وأشعل حربا هو مسؤول عن ضحاياها، ولكن المشكل اليوم ليس هو بوتين، وإنما هو المصداقية التي يمكن أن نواجه بها هذه الغطرسة الروسية. الغرب ديموقراطي داخل حدوده، طاغية خارجها، وإذا لم يكن يخوض الحروب بالسلاح المدمر، فإنه يخوض الحروب الناعمة الفتاكة، ولهذا نرى جزءا منا متفهما لمنطق بوتين وإن كان ضد بشاعة ما يقترفه في ماريوبول ودونباس وغيرهما. هذا رجل طوقه الغرب، وحاصره عسكريا بضمّ جل الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي إلى الحلف الأطلسي، وكانت آخر الحلقات هي أوكرانيا. وبالتالي خرج بوتين في معركته الأخيرة، ليس ضد فولوديمير زيلنسكي، ولكن ضد الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية من أجل حسم الشكل الذي سيكون عليه النظام العالمي الجديد.

أنا أميل إلى اعتبار أن ما ينتظرنا الآن هو فوضى عالمية جديدة، فعندما تصل أسلاك التوتر إلى هذه الدرجة، ويكون في خزائن القوات المتواجهة من سلاح الدمار الشامل ما لم يكن حتى جزء من المليار منه في الحرب العالمية الثانية، فإن فكرة نهاية العالم ليست مجرد فيلم هوليودي من الخيال العلمي، وإنما هي احتمال يجب أن يكون واردا عند الفرد الضعيف لله وعند الدول الموجودة على الهامش اليوم، دول لا هي تشعل حريقا ولا هي تستطيع أن تتجنب لهيبه، ومنها هذه المملكة غير المحظوظة تماما بما جرت به رياح التاريخ وما جاد به الجوار، حتى أننا أمام هذه التحديات نكاد نكون إقليميا في عداد المنتحرين.

ففي الوقت الذي تطل فيه القيامة علينا برأسها، مازال الإخوان في شرقنا يجترون ضغائن بائدة وصغيرة، ونحن مفتتون، ووالله حتى لو كنا متكتلين نحن والجزائر وموريطانيا وكانت تونس في كامل لياقتها وليبيا معنا بغناها، لما استطعنا أن نقف أمام هذا الزلزال الذي يتخذ من أوكرانيا ذريعة من أجل إعادة ترتيب أوراق القوى العظمى. وحتى لو كنا في هذا العالم العربي الممتد من الماء إلى الماء كما يقال، متراصين، فإننا لن نصمد، فما بالك إذا كان عالمنا العربي هذا بالذات أخطر من الساحة الأوكرانية وإسرائيل تحكم العالم ويدها في كل مكان حيث يصنع القرار الاستراتيجي الدولي.

إن التوازن الدقيق الذي يلعب به المغرب في سياسته الخارجية يستحق، مع هذه العزلة القسرية التي نعيشها إقليميا، أن يوصف بالذكاء والمهارة. يبقى أن نحاول اللعب في قضايانا الداخلية بنفس الحنكة والتبصر، لأن ما نشاهده في الكثير من الملفات والخرجات يتسم بكثير من الاستسهال وكأن بعض الذين يدبرون الشأن العام لا يحسون بهذا المنعطف الجلل الذي تعيشه البشرية. لقد حققنا سابقا طموحا استراتيجيا سمي بالانتقال الديموقراطي بسبب تهديد داخلي بسكتة قلبية كما وصفها الحسن الثاني رحمه الله، فما بالنا اليوم ونحن نعيش تهديدا عالميا بسكتة قلبية! هل يقبل هذا المزاح يا سادة؟

مقالات مرتبطة :

تعليقات الزوار
  1. باعزوز

    bravo

اترك تعليق


إقرأ أيضاً