مُؤلف كتاب “الجوار الحذر” لـ”الأيام 24″: اقتصاد سبتة ومليلية أزمة إسبانيا وحدها وقرارات المغرب سيادية حمائية

نبيل درويش


بعد سنتين من الإغلاق، إثر أزمة دبلوماسية كانت توصف بـ”الحّادة” بين المملكة المغربية وإسبانيا، فُتحت أبواب المعبر الحدودي “باب سبتة” في وجه الراغبين في الولوج من الجانبين، فانطلق العشرات من الراكبين على متن السيارات أو الدراجات النارية وكذا الراجلين، لقضاء مُختلف الأغراض المُؤجلة، وكذا من أجل العمل أو السياحة أول زيارة الأهل. غير أن جُملة من الإجراءات الصادرة عن سُلطات مدينة سبتة المُحتلة أعادت الاحتجاج إلى الواجهة، وأماطت اللثام عن كثير من الاستفسارات التي ظلت عالقة في مُستجدّات العلاقة المغربية الإسبانية؛ وهو ما دعا “الأيام24” إلى مُحاورة نبيل دريوش، إعلامي وكاتب متخصص في العلاقات المغربية الإسبانية، وصاحب كتاب “الجوار الحذر لعلاقات المغربية الإسبانية من وفاة الحسن الثاني إلى تنحي خوان كارلوس” الصادر باللغة الاسبانية، سنة 2015، والمُترجم إلى اللغة العربية خلال السنة المُنصرمة (2021).

 

بداية، ما الذي تغير في ملف “سبتة ومليلية” منذ أول زيارة لـ”خوسي ماريا أثنار” للمغرب إلى يومنا هذا؟

 

سؤالك يعيدنا كثيرا إلى الوراء، لكن لا بأس هنا أن نذكر أن زيارة خوسي ماريا أثنار إلى المغرب في 17 غشت 1999 كانت بهدف إقناع الملك محمد السادس، الذي لم يكمل حينها شهرا واحدا كملك للبلاد، بقُبول المغرب بتوقيع اتفاقية الصيد البحري، التي كانت عالقة وقتها دون تقدم وبحكم أن الانتخابات التشريعية لمارس 2000 كانت قد اقتربت وكان خوسي ماريا أثنار يريد خوضها دون إثارة مشكلة اتفاقية الصيد البحري، ودون ضجيج احتجاجات الصيادين الاسبان على تقصير حكومة أثنار في إقناع المغرب بتجديد الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، لكن الصحافة الاسبانية، أثارت وقتها، مسألة سبتة ومليلية وإمكانية طرح الملف من طرف العاهل الجديد للمغرب، لأن وسائل الإعلام الاسبانية تعيش دائما بهذا الهاجس وتعتبره من القضايا المثيرة إعلاميا.

 

وكان التغيير الحاصل باعتلاء ملك جديد عرش المملكة المغربية مناسبة سانحة لجس النبض بخصوص هذا الملف، لكن أثنار تفادى الخوض في هذا النقاش لأن هدفه من تلك الزيارة كان هو تجديد اتفاقية الصيد البحري، علاوة على أن موقفه كسياسي يميني مُتشدد كان محسوما إزاء هذه النقطة، ولم يتردد في الحديث عن ذلك في مذكراته من خلال سرد ما راج بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني بخصوص هذا الملف في آخر لقاء بينهما عام 1998.

 

وبالعودة إلى سؤالك، -ولربط الماضي بالحاضر- أعتقد أن مواقف المغرب التاريخية لم تتغير في العمق وإن كان هذا الملف متروك للزمن لعدة اعتبارات، وهو ذكاء سياسي كبير من طرف المغرب، الذي اختار التعايش دون التخلي عن مواقفه كلما اتجهت مدريد إلى تجاوز بعض الأعراف المرتبطة بالملف.

 

بالمقابل، هذا لا يمنع من وجود تغييرات جوهرية في تعامل المغرب مع هذا الملف، بدأ ذلك بقيام المغرب منذ حادثة جزيرة ليلى صيف عام 2002 بتنمية شاملة لمحيط المدينتين بشكل يمكن للجميع ملاحظته، وهو ما سهل عملية فك ارتباط محيط المدينتين بأنشطة التهريب، وصولا إلى قرار المغرب بوقف نهائي لهذه الأنشطة المضرة بالاقتصاد الوطني، ومسيئة لصورة المغرب الذي كانت وسائل الإعلام الإسبانية والغربية عموما توظف صور أنشطة التهريب للنيل من صورته، فاقتصاد المدينتين ظل لعقود هو المستفيد من اقتصاد التهريب، وحاولت حكومة المدنيتين المحتلتين إيجاد اقتصاد بديل وإلحاق المدينتين بالنظام الجمركي الأوروبي، لكن يبدو أن هذا الحل صعب ومُعقد عمليا.

 

أعتقد شخصيا أن قرارات المغرب تعد سيادية لحماية اقتصاده وصورته وتوفير مناصب شغل تحفظ كرامة مواطنيه، فيما أزمة اقتصاد المدينتين المحتلتين تبقى، اليوم، مشكلة إسبانيا وحدها.

 

اسبانيا اليوم تبحث عن حل أوروبي للمشكلة الاقتصادية للمدينتين، حتى يتحمل الاتحاد جزءا مهما من الأعباء الاقتصادية للوجود الاسباني بالمدينتين المحتلتين وهذا ما يفسر تقديم تقرير تقني للاتحاد الأوروبي في 1 يونيو 2022 بحضور رئيسي المجلس البلدي للمدينتين، بل ذهب ممثلو المدينتين إلى حد طلب إنشاء تمثيلية للمدينتين لدى الاتحاد الأوروبي، يبدو جليا أن المدينتين ستتحولان فعلا إلى حصنين مغلقين منفصلين عن محيطهما الذي كان يشكل أنبوب أوكسجين بالنسبة لهما، مع الوقت سيختفي اقتصاد “البازارات” ومعه الأنشطة الاقتصادية الرئيسة بالمدينتين، ووفق هذه التركيبة الجديدة ستشكل المدينتين عبءا جديدا يثقل كاهل إسبانيا والاتحاد الأوروبي، لأنه حتى تشجيع سُكان شبه الجزيرة الإيبيرية سيصطدم بغلاء تذاكر النقل البحري، بالنسبة لسبتة وبعد المسافة البحرية بالنسبة لميليلة، ولا أظن أنه سيكون مجديا.

 

وعدا ذلك أظن أنه يمكن للبلدين التعاون لمواجهة موجات الهجرة غير الشرعية التي تهدد بين الفينة والأخرى السياج الأمني للمدينتين وكذلك في تبادل المعلومات لمواجهة الإرهاب الجهادي بحكم أن الأجهزة الأمنية الاسبانية ومراكز الدراسات الأمنية تصنف سبتة ومليلية كواحدة من أربع جهات الأكثر إنتاجا وتصديرا للفكر المتطرف.

 

 

• يتضمن مؤلفك “الجوار الحذِر” جُملة من العبارات الحادّة من قبيل “قضية الهجرة السرية نزيف في جسده” في إشارة إلى المغرب، و”متاهة الأزمات” “سياسة العصا” و”جراح بدأت تنفتح”…وغيرها من الكلمات التي يتّضح أنك اخترتها بعناية عن وصف العلاقة بين الرباط ومدريد، اليوم وبعد سنوات طِوال من الكتاب وسلسلة من الأحداث، كيف تصف العلاقة بين البلدين؟

 

هذه العبارات لا يمكن نزعها عن سياقها، لأن دلالتها تكتسبها من السياق الذي أوردتها فيه، فيما يخص العلاقات بين البلدين أظن أنها مرت طيلة العشرين سنة الماضية بمخاضات كثيرة وكان هناك مد وجزر في التعاون والصراع، هي علاقات بالغة التعقيد والحساسية بحكم أننا نتحدث عن شعبين بمسارين تاريخين فيهما تقاطعات وفوارق وبديانتين مختلفتين كانتا في غالبية الأحيان في صراع محموم أو بعبارة الأديب الإسباني بنيتو بيريث غالدوس: “أزل قرآنك أيها المسلم لأضع إنجيلي، وأزل إنجيلك أيها المسيحي لأضع قرآني”.

 

العلاقات الثنائية تتوزع بين ملفات التعاون وملفات الصراع، وهناك فترات تتوارى ملفات الصراع إلى الوراء لتفسح المجال للتعاون وتبدو العلاقات سلسة ومثالية لكن بتغير الظروف السياسية داخل اسبانيا أو تغير المحيط الجيو-سياسي أو لأي سبب آخر تبرز ملفات الصراع للواجهة ويتراجع التعاون إلى أدنى مستوياته، بالنسبة للمغرب فقضية الصحراء ومواقف الحكومات الاسبانية منها تعد “تيرمومترا” يقيس به علاقاته مع الجارة الشمالية، وهو ما تنتهي الحكومات المتعاقبة على تفهمه حتى وإن تجاهلته أو صارت عكس ما يرغب فيه المغرب لأنه تدرك أن المصالح الإستراتيجية لإسبانيا باتت تقتضي اليوم تجاوز أية خلافات والاجتهاد لتغليب روح التعاون على عقلية الصراع، وهو ما حصل مؤخرا مع الحكومة الائتلافية الاسبانية بقيادة بيدرو سانشيز.

 

توصلت بعد سنوات طويلة من الاشتغال على هذا الملف إلى أن العلاقات الثنائية بين البلدين مُغلفة بجوار حذر لأنها محكومة بثنائية الصراع والتعاون، لكن أظن أن خارطة الطريق التي وضعها البلدان مؤخرا تهدف أساسا على تغليب التعاون على الصراع بتأكيدها على أن جميع المشاكل العالقة ستخضع لمنطق الحوار والتشاور وعدم اتخاذ قرارات أحادية الجانب، وهذا هو صمام الأمان الوحيد للخروج بالعلاقات من حقول الألغام التي تتعرض لدخولها بشكل دوري.

 

 

• منذ تصريح “خوسي ماريا أثنار” يوم 9 يناير 2000 في مدينة سبتة بالقول: “إن سبتة مدينة اسبانية وتُشكل جزءا حيويا من مُستقبل اسبانيا” إلى سنة 2021 حيث سمح المغرب لـ”أبنائه” بولوج سبتة، هل أصبح المغرب أكثر قوة وحزما في التعامل مع مدريد؟

 

عبارة أثنار كانت تحمل رسالة سياسية مبطنة للمغرب وهي أن مدريد لن تتخلى مستقبلا عن مدينة سبتة وشقيقتها مليلية، وأيضا رسالة طمأنة لساكنة المدينتين التي تعيش على وقع أفكار اليمين المتطرف خصوصا مع ولادة حزب بوكس والذي يُحذر يوميا من خطر الزحف المغربي على المدينتين وبكونهما أشبه بسمكتين تسبحان في ماء المغرب، ويدعو إلى بناء مزيد من الأسوار وإلى مزيد من العسكرة بالمدينتين.، وهو ينطبق بلسان تيارات داخل المؤسسة العسكرية الاسبانية ويعبر عن أفكارها ويدافع عن مصالحها.

 

أظن أن المغرب أصبح أكثر واقعية في التعامل مع هذا الملف بتركيزه على تنمية محيط المدينتين، فحتى الأمس كانت المدينتان هما المتحكم في الاقتصاد المحلي للمنطقة، وهما المستفيدتان مما يدره التهريب، أعتقد أن زمن هذه التناقضات قد انتهى ودخلنا اليوم إلى مرحلة جديدة يطرح فيها المغرب نفسه كشريط استراتيجي لاسبانيا وعلى نفس درجة الأهمية الإستراتيجية.

 

•في حالة عدم التزام أحد الطرفين بعدم “التهرب المعيشي” أو “الهجرة السرية” فهل من المُرتقب أن تشتعل شرارة أزمة جديدة بين الرباط ومدريد؟

 

المشاكل والأزمات بين المغرب وإسبانيا تاريخية وبالغة التعقيد ويلعب فيها الجانب النفسي دورا مهما، وهي أشبه بمشاكل السكن المشترك، لا يُمكن التغلب عليها إلا بتذويب الخلافات في شبكة من المصالح، فالمصالح هي صمام الآمان للتحكم في هذه الخلافات والمضي قدما بملفات التعاون، كما شرحت سابقاـ وكمتتبع للعلاقات المغربية الاسبانية- يبدو جليا أن التهريب المعيشي ينتمي إلى زمن ولى.

 

وبالتالي سيتم تدبير هذا الملف بالحكمة اللازمة بشكل يراعي مصالح المشتغلين السابقين في هذا المجال، وكما قلت هي قرارات سيادية بالنسبة للمغرب لا يمكن لإسبانيا التدخل فيها بحكم كونها مرتبطة بمسلسل التنمية بمنطقة الشمال، أما بالنسبة لملف الهجرة السرية فهناك التزامات للمغرب مع الاتحاد الأوروبي ويعتبر التعاون بين المغرب واسبانيا نموذجيا في منطقة غرب المتوسط.

 

لكن هذه الورقة يتم توظيفها من طرف بعض السياسيين الإسبان أو وسائل الإعلام الاسبانية لتصفية الحسابات مع المغرب لأنها أما تكون تابعة للمعارضة باسبانيا أو تابعة لجهات معروفة بالعداء للمغرب، العداء للمغرب أمر تاريخي ولن يختفي بين عشية وضحاها، وهناك عمل كبير يجب القيام به على الأرض باسبانيا لتصحيح صورة المغرب باسبانيا، وهذه من الرهانات الكبرى التي على المغرب كسبها في المستقبل.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً