مذكرات معارض للحسن الثاني: طرائف المختار السوسي وإضراب زعيم البوليساريو بسوس



للعنوان العجيب لذاكرة المناضل الاتحادي أحمد الطالبي المسعودي “الأسرار من محلها” حكاية طريفة يرويها الكاتب قائلا: “هكذا كان من حظي، ذات مساء، أن أحفظ عن ظهر قلب قصيدة أمدح فيها أحد العلماء الوافدين. ولم يكن إلا محمد المختار السوسي. وُفقت في الإلقاء، بحسب ما يظهر، بلكنة أمازيغية، بدون شك. حين انتهيت، سأل المختار السوسي الأستاذ: من هذا الطالب؟ فأجابه ذاكرا اسمي الكامل ونسبي. فاخترق المختار السوسي الصف، ليمسك بيدي ويوقفني بجانبه وأخذ يردد: “الأسرار من محلها، الأسرار من محلها..”.

 

يحطم أحمد الطالبي المسعودي أفق انتظارنا في كتابه «الأسرار من محلها»، فنحن الصحافيون المولعون بالتقاط تفاصيل تاريخية منفلتة، وأسرار عن مرحلة بعيدة عنا بكل مآسيها وأفراحها، بكل أضوائها وظلالها، قد نحس بأن مذكرات أحد أكبر معارضي نظام الحسن الثاني ممن صادقوا درب الفقيه البصري والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي وباقي رموز مرحلة ملتبسة من تاريخنا المعاصر، تنآى بنا بعيدا عما اعتدناه في مذكرات مرحلة المقاومة سواء ضد الاستعمار أو ضد الاستبداد. لا يؤرخ أحمد الطالبي المسعودي في هذا الجزء الأول من المذكرات التي ننفرد بإنجاز أول تعريف بها في الحقل الإعلامي، لذاكرته في الحقل السياسي، بل يعرج بنا بانعطافة بعيدة بعمق فكري غير مسبوق في كتابة المذكرات بالمغرب. إنه يؤرخ لفضاء الذاكرة، يمنح الأمكنة والمجال صوتا ولغة، يسير بنا في دهاليز تأريخ للعائلة وتاريخ لما يمكن أن نسميه الأصول الفكرية لأساطين الحركة الوطنية بالمغرب، فهؤلاء الكبار: أبو بكر القادري، المختار السوسي، مولاي العربي العلوي، الفقيه البصري، عبد الله إبراهيم… لا يحضرون في نصوص هذه الذاكرة بمهامهم السياسية الشهيرة، بل بعمق آخر لم نكن نعلم منه غير قشوره الخارجية.

 

وعبر استنطاق النصوص والوثائق يحرص أحمد الطالبي المسعودي على كتابة تاريخ لمنطقة أعطت الكثير للفكر والثقافة والنضال الوطني والسياسي بالمغرب. يتحدث عن عمر الساحلي كمدير لمعهد تارودانت، ومصطفى الوالي السيد كطالب فيه وليس كمؤسس لجبهة البوليساريو. يتوقف عند تفاصيل مفاجئة كان شاهدا عليها من الحياة الخفية للمختار السوسي وهو وزير للتاج، ويحضر الفقيه البصري والمهدي بن بركة ومولاي محمد بن العربي العلوي من وجهة الجانب العلمي والمعرفي لا السياسي. لذلك قال عبد الصمد بلكباص في تقديمه للكتاب: «يواجهنا الأستاذ أحمد الطالبي المسعودي في كتابه هذا بمفاجأة مدهشة تتأسس من عتبة تحقيق ما ننتظره منه عبر تأجيله. ففي الوقت الذي يذهب بنا أفق انتظارنا إلى توقع أن ما يُشخص في صفحات الكتاب هو تجربة أحمد الطالبي، المعارض الشرس لنظام الرّاحل الحسن الثاني واللاجئ في الجزائر وفرنسا، بمغامراتها السياسية والإنسانية، ليكون فعل التذكر جريا على ما قام به عدد من أعلام جيله في مذكراتهم، جردا سياسيا لكواليس الأحداث التي طبعت ذاكرة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، نجده يُدخلنا في عالم يفتح مسارات متشابكة تنطلق ذهابا وإيابا من قرية «تكدالت» في المعدر الكبير وتتدفق بالترحال بين شخوص وأحداث ووثائق وأمكنة، معيدا إلى الجغرافيا روحها وإلى المكان صوفيته في أنبل معانيها. هذا المكان الذي ينتشر في أرواح هذه الشخوص ويرتحل عبرها. أنها سوس، التي تتمدد في الحواضر الكبرى للمغرب، مثل مراكش وفاس والرباط.. سوس العالمة. فالكاتب لا يكتفي بتذكر نفسه، وإنما يجعل منها نقطة لتقاطع مسارات أشخاص رحلوا لكنهم ظلوا أحياء بفضل استمرار إشعاعهم الرّوحي فيه وفي المكان وفي الآخرين».

 

تكمن أهمية مذكرات «الأسرار من محلها» في القيمة المعرفية التي يزخر بها والتي نجول عبرها في الهوامش الخصبة لسوس العالمة، وللمدارس العتيقة، ولما كان رواد الحركة الوطنية يقومون به، بالإضافة إلى مقاومة المستعمر سياسيا وعسكريا، في تأهيل المجتمع وتنمية الإنسان المغربي، فكرا ومعرفة وذاكرة، فهذا التأريخ للمكان الجهوي معرفيا وإنسانيا ضروري لبناء فضاء للذاكرة المغربية، حيث لا تتصارع الذاكرات بل تتلاقح وتتخصّب وتلد ما يمنح الذاكرة الوطنية دماء الحياة والثراء اللازم.

 

بيع في سوق النخاسة أربع مرّات

 

«من الطريف في هذا الباب، أن أشير إلى نموذج إنساني ذاق مرارة العبودية، فقد بيع أربع مرّات وفرّ من مُشتريه. بيع في سوق النخاسة مرّتين وفي ليلة واحدة (وعلى رأسه خصلتان من الشعر، كل خصلة في فود) ثم هرب. ثم بيع لدار المخزن في مرّاكش ليلة عيد المولد، لينفلت مرة أخرى. ثم باعه القائد بوهية، ليلتجئ إلى الشريف مولاي الكبير، الذي لاقاه بالقائد محمد بن الطاهر. ثم اختطف مرة أخرى وتسلل والتحق بالسلطان مولاي الحسن وجيشه. وسيبرز كقائد في الجيش بمراكش ويشارك في حروب الرحامنة ويلازم القائد العسكري الأول لثورة أحمد الهيبة، ويتولى قيادة معارك جيشه التحريري.

 

وسينتهي لاجئا سياسيا في «أيت باعمران»، ثم يكون من اللاجئين السياسيين من ثوار أحمد الهيبة ومربيه ربه، الذين ستستقبلهم إسبانيا في شخص فرانكو. ومعروف عنه أنه من ألقى القبض على الثائر بوحمارة، شمال المغرب. إنه رمز من ناضلوا من أجل الحرية المضاعفة، حريته شخصيا وحرية شعب بكامله».

 

الأمة «باخيش» التي ربت الكاتب

 

حينما كانت «باخيش» تخلو بي في المساء وقد غشي الظلام، تطفئ «الحسكة» وتفترش حصيرا وكومة أثواب تحت رأسها، ثم تشرع في سرد حكايات عن:

ـ أحمد أحرّام: وهو شخصية خرافية يتداول الأمازيغ حكايات «أومين» عن طرائفه وبطولاته وحيله على الخصوص وعن ذكائه الخارق.

ـ تاغزنت: وهي شخصية في هيئة امرأة تهاجم الصبيان وتعتدي عليهم، وقد تأكلهم. شخصية تروى عنها العديد من قصص الرعب.

ـ والأمر نفسه عن الحيوانات الخاصة: بومحند (القنفذ) وأوشن (الذئب) في حكايات عن الذكاء والبلاهة لدى بعض الحيوانات.

وإذا كانت «باخيش» تتقن العمل الفلاحي وتتفنن فيه، فقد كانت في تواصل دائم مع أسر القرية والدواوير المجاورة، ودودة تجاههم ومرحة، ضحوكة من غير إفراط، مع صرامة حين يتطلب الأمر. وحينما تحضر مناسبة يرمز حضورها إلى حضور العائلة. وحينما تحتفل، فالعائلة من تحتفل، وحينما تغضب فإن الغضب يعم كل العائلة. تتحكم في العلاقات الداخلية والخارجية، العامة والخاصة، وتتجمع لديها كل السلط. ويحتفظ الوالد بسلطته المعنوية الرمزية، راضيا مطمئنا. وتحرص على مصالح العائلة وديار «أيت سيدي مسعود»، كأنها من شيدتها ومن امتزجت دماؤها ببناتها الأولين.

 

«نانّا» التي سهرت على تنشئتي

 

بمرور السنوات على هذه الوتيرة، وبنمو وعيي وتدرجي في استيعاب مُتضمّن لشروح العلامة الطيب العامري لمتن «العاصمية» والحكم الشرعي الخاص لمسألة الرق، ظل وضع «باخيش» يحيرني بسبب استمرار وضعها في العائلة بهذه الحال، عن حياتها المستقبلية: ألا يخطر ببالها أن تتزوج كما سبق لأخيها مبارك أن فعل؟ وإذ هي محافظة على صلواتها الخمس في أوقاتها، شديدة التعلق بالمقدس، أليس من الواجب الشرعي تحريرها؟ وإن كنت في قرارتي شديد التعلق بها وأعُدّها ضمن منظومتنا العائلية. علاوة على أنها «نانّا» التي فصلت سرتي عن جسد والدتي، بل إنها «نانّا» كل إخوتي وأخواتي، عدا الأخ الأصغر، إبراهيم. بالنسبة إلي كانت هذه رابطة قوية، أما محبتها لي وتعلقها بشخصي فأمر لا يضاهى ولا يوصف. فهي من أرتني البحر أول مرة، إذ سافرت معي إلى «موسم أكلو» حيث اكتشفت أن هناك شيئا اسمه «البحر». كما أنها رافقتني في بعض المناسبات مثل «موسم العصيدة» السنوي في «سيدي عبد الله وسعيد». باختصار، «نانّا» ممن سهروا على تنشئتي، ومن خلالها أحببت اللون الأسود، الذي أعده أروع الألوان.

 

وحينما تقدمت بنا السنون وتجاوزتُ متون موسوعة الشيخ خليل وابن عاشر وبدأت في تعلم أبجديات التحليل المادي للتاريخ، وماركس ورأسماله، وجدت مثالا حيا عن قوة العمل الذي مثلته «باخيش» في منزلنا. فقد كانت مثالا حيا لقوة العمل الاقتصادية لنمو ثروتنا الفلاحية. بل كثيرا ما تخيّلت كارل ماركس قابعا في زاويتنا في «المعدر» يبلور أفكاره ويحرر فصول رأسماله في زمن تاريخي صادف فترة الثورات وتمرد العبيد على المستوى الكوني، ما بين 1912 و1917.

 

هكذا تزعم مصطفى الوالي مؤسس بوليساريو إضرابا في مدرسة بسوس

 

وأنا يافع، في مقتبل العمر، وقد جلت أغلب المدارس المعروفة في سوس، سأجد نفسي أحط الرحال برفقة والدي، في فرع المعهد بـ «سيدي بيبي»، غير بعيد عن المدرسة المذكورة. وجدت نفسي في السنة الأولى الابتدائية حسب النظام الخاص بالتعليم الأصيل. وقت كنت في المعهد في السنة الثانية. وبدأت مرحلة دراسية كانت، في الحقيقة مجرد إقامة بديلة عن الإقامة في قريتي أو الالتحاق، من جديد بمدرسة عتيقة. وما هو مغر في التجربة الجديدة هو التنشيط الثقافي الدوري والطابع الأدبي، بل الشعري بالذات. كانت وفود زائرة تتوالى على المدرسة الجديدة، خاصة أنها غير بعيدة عن أكادير وفي الطريق الرئيسي المتجه نحو تيزنيت. كانت هناك تقاليد مُتّبعة، لعل مصدرها مراكش، أيام كان الأستاذ العاتقي طالبا دارسا فيها. فكلما علم الأستاذ بموعد قدوم شخصية هيأنا لمدح الزائر المرموق، بحفظ قصائد نلقيها في الساحة الكبرى للمدرسة، حيث تتشكل حلقة كبرى ينشطها الأستاذ. وكنا نتدرب على الإلقاء الجيد والفصيح قبل حلول الضيف.

 

كان المعهد عبارة عن «ثكنة» ثقافية: مسرح، مباريات رياضية، إذاعة مدرسية، مكتبة غنية بالمخطوطات. غير أن المعهد سيشهد هزات، وفعلت السياسة فعلتها. فالمدير عمر الساحلي، هو رمز المقاومة والمعارضة الاتحادية، وقد اقتحم حزب الاستقلال الميدان بإعلانه «حربا» على المشرفين. وهكذا تم تشجيع إضراب عام قادته مجموعة من الطلبة، يتقدمهم مصطفى الوالي السيد. توقفت الدراسة مدة 40 يوما، وعشت كواليس فض الإضراب كما يلي:

 

غادرت تارودانت نحو أكادير، لأقضي أياما بجانب الحسن البونعماني، باشا أكادير، منتظرا فك الإضراب العام. وفي صبيحة يوم، حل مدير المعهد لتناول الفطور معنا، قادما من الرباط، إذ اتخذت الترتيبات لفك الإضراب بالقوة.

 

كنا ثلاثة. بعد تناول الفطور، أشار لي العم الشاعر بالانسحاب. وبعد ساعة غادرنا الأستاذ عمر الساحلي، وأسرّ إلي العم الشاعر بأن الإضراب سيفك اليوم، إذ ستتدخل القوات العمومية، وعلي الاستعداد للتوجه إلى المعهد لإعادة تسجيلي. فقد تقرر إغلاقه وإعادة التسجيل الفردي للطلبة. وطرد كل من له صله بتنظيم الإضراب. وطلب مني مقابلة لسان الدين عبد السلام الدرقاوي، ابن أخ المختار السوسي، للإشراف على تسجيلي. وهذا ما تم، في حين طرد العديد من الطلاب، وفي مقدمتهم مصطفى الوالي. وكان ضحية هذا الإضراب 600 طالب.

 

انتقل المطرودون إلى جامعة ابن يوسف في مراكش، حيث وجدوا تقارير عنهم وصلت إلى إدارة معهد «دار البارود» للحيلولة دون تسجيلهم، لسوابقهم في معهد تارودانت.

 

بينهم بنسعيد آيت يدر والساحلي والروداني والأخصاصي والكاتب

 

رجال المقاومة السوسيون يلتحقون كطلاب بجامعه ابن يوسف

 

حفزتني أكثر تجربة شقيقي الفقيد محمد بن مسعود الطالبي، الذي قطع في الجامعة اليوسفية أشواطا دراسية متقدمة نالت ثناء الجميع. وأذكر أن شقيقي محمد اتجه إلى مراكش برعاية العم الشاعر البونعماني. وقبل أن يلتحق بالجامعة وبدروسها الرسمية نظمت له مع مجموعة من أقرانه الطلبة فتره تكوين مكثف على يد المختار السوسي دامت عامين في زاوية «الرميلة»، المقابلة للمسجد الكبير الباب دكالة، الذي بنته مسعودة الوزكيتية أم أحمد المنصور الذهبي. وقد أشرف على بناء زاوية «الرميلة» السيد ابراهيم البصير، المنتمي إلى الطريقة الدرقاوية، وهو من الرموز التاريخيين لمنطقه الصحراء المغربية. وتم تشييدها بأمر من الحاج الدرقاوي الالغي، والد المختار السوسي، واشترت البقعة التي شيدت فيها بـ 300 ريال بين 1909 و1910. (المعسول، ج. 12 ص, 134) ثم تم تحويلها من زاوية صوفية إلى مدرسه علمية من قبل المختار السوسي. وقد رشح الأخير في 1948 أخي محمد بن مسعود ولسان الدين عبد السلام الدرقاوي وأخاه الحسن وعبد الله الروداني وأبا محمد العدوي ومحمد بن سعيد أيت يدر سعيد ومحمد الماسي وعبد الله القضيب ومحمد نظيف وأحمد الأخصاصي ومحمد بن اسماعيل أرفاك وابراهيم الحامدي لهذا التكوين، الذي كان يتم صباحا كل خميس. وقد نجحوا جميعا في المباراة والتحقوا بالسنة الرابعة ثانوي وفق النظام التعليمي للجامعة.

 

ومما شجع الطلبة السوسيين على الالتحاق بجامعه ابن يوسف توفير السكن لهم، إذ كانت مراكز الإقامة هي مدرسة باب دكالة، مدرسة ابن صالح، المدرسة العباسية، مدرسة المواسين ومدرسة ابن يوسف. كما أن المقربين من محيط المختار السوسي كانت توفر لهم غرفا في الزاوية نفسها وفي «فندق السي موح» هكذا عرفنا أن المقربين من المختار السوسي أقاموا في الزاوية وأحمد العدوي أقام في باب دكالة وبن سعيد أيت يدر في «فندق سي نوح»، أما شقيقي محمد الطالبي فكان يقيم عند العم الشاعر. كما شجعهم بعض المساعدة في مجال التغذية، فنظارة الأحباس (الأوقاف) كانت توفر لهم خبزة في اليوم. كما أن بعض التجار المحسنين كانوا يتكفلون بالوجبات الغذائية للطالب الواحد طيلة أيام دراسته أو تسليمه قدرا ماليا لتغطيه ذلك.

 

بالنظر إلى هذه المعطيات، كان من العادي أن أتقدم بهذا الاقتراح إلى والدي. وتحضرني هنا معاناة ما قبل الالتحاق بهذه الجامعة التاريخية، بدعوى أن والدي يرى أن العديد ممن يلتحقون بها ينصرفون عن طلب العلم وينخرطون في العمل السياسي: محمد بن سعيد أيت يدر، الذي استقدمه المختار السوسي من مدرسه سيدي بوعبدلي القريبة من بو نعمان ومن قريتنا، العربي الناجم، أحد قادة المقاومة وجيش التحرير، والقاضي بن اسماعيل الرفاكي من «أكرار» في «أكلو».

 

وكان والدي متخوفا من أن أنصرف عن طلب العلم وأنخرط في السياسة أو تبتلعني. وكانت «أبا رقية» متعاطفة معي في اختياري.

 

في رفقة المختار السوسي الذي قاد الكاتب إلى رجال الحركة الوطنية

 

كنا ثلاثة على مائدة الغذاء المختارة وجبتها بعناية، مراعية شروط الحمية. كان حديثنا ذا شجون، أحسست برأفة ودفء لا نظير لهما. ثم سلمني المختار، بعد قسط من الراحة، لزيارة أحد التجار (بائع في «باب الحد») تتردد على متجره وجوه النخب السوسية في الرباط. أظنه من «الأخصاص». ثم امتطينا «العروس» وأنا بجانب السائق بصير، متجهين إلى سلا، شاهدت ساحة تتوسطها سقاية. دخلنا منزل الفقيه التطواني، حيث تناولنا الشاي، ثم اطلعنا على مخطوطات دار حديث عنها بينه وبين المختار.

 

بعد هذه الجولة، أوصلني إلى نقطة الانطلاق، ليحدد لقاء في اليوم التالي. رافقني لزيارة أبي بكر القادري، في «مدرسة النهضة» بسلا، وعثمان جوريو، في «مدارس محمد الخامس». وعرّجنا على إبراهيم الكتاني. ثم ذهب بي إلى مكتبه في وزارة التاج، وكان معنا أصغر أبنائه. خلال الزيارة توثقت علاقتي مع ابنه سيدي عبد العزيز، الذي كان في سني. وكنا نتمازح على أساس أنه متعاطف مع حزب الاستقلال وأنا مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فكنا نتراشق بمزايا الحزبين، كل على حدة.

 

ودّعت الأديبين، وحبهما يغمرني ومرافقتهما تشعرني بالسعادة والثقة بالنفس، مصمما على متابعة مشواري الدراسي والأدبي بكل عزيمة ومثابرة. وبمجرد عودتي واستقراري بمراكش واستلامي الغرفة في «الزاوية» التي أسسها الحاج علي الدرقاوي ويرعاها شقيق المختار السوسي، سيدي بلقاسم الإلغي، حلّ بمراكش الوزير المختار السوسي بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الإفريقي، الذي يترأسه إمبراطور الحبشة (إثيوبيا حاليا) في وساطة لوقف حرب الحدود بين المغرب والجزائر.

 

مسار الوجد والعرفان وصراع السلطة ولعنة السياسة تطال المعاهد العلمية

 

في فاتح أبريل 1945 سيستقر بالبونعماني المقام من جديد في المدينة الحمراء، بعدما عينه فيها محمد الخامس أول رئيس للمحكمة. قبلت السلطات الفرنسية في مراكش تعيين البونعماني حاكما مفوضا على مضض، إذ عينه محمد الخامس ورشحه أخ الملك في تزنيت ودعمه بالمطلق خليفة السلطان في مراكش. وكان التهامي الكلاوي الساهر الأمين على المصالح السياسية الفرنسية والمتحكم بقبضة من حديد في شؤون الشأن العام.

 

ستشهد المؤسسة تحولات وتطورات بسبب الصراعات السياسية بين الاستقلاليين والاتحاديين وأنصار السلطة. وستتفرغ السلطات فيما بعد، للإجهاز على المعهد وتعيين السيد المكي الناصري، أحد العلماء، عاملا على إقليم أكادير، لترتيب الأوضاع والمواجهة المباشرة مع المسؤولين عن المؤسسة والاعتقال التعسفي للمدير، بين الفينة والأخرى، وإبعاده النهائي من أية مسؤولية ونفيه إلى مدن أخرى.

 

جوانب من العنف المدرسي الخطير ضد الطلبة

 

لم أكن أغادر «العزيب» إلا في الأعياد. ولا أنسى الحرج الذي وقعت فيه حينما سافرت إلى بلدتي «تكدالت» وأذناي تسيلان قيحا بسبب جراح ناجمة عن التعنيف الممارس عليّ من قبل المعلم، وإن كان ما يصيب التلامذة الآخرين أكثر عنفا وألما مما كان يصيبني.

 

كان هذا هو «المنهج» التربوي السائد في هذه الكتاتيب في كل من مناطق سوس، الجاهلة والعالمة. وقد أشرت إلى التعنيف الذي تعرض له جدي الأمومي، سيدي مبارك الوسلامي البعقيلي، والتكبيل الذي تعرض له شقيقي الأكبر بابا الحسن. وهناك نماذج تم تأريخها، أذكر منها ما أورده المختار السوسي:

 

«يعمد المعلم إلى التلميذ ويعلقه في «الزوكا»، وهي عبارة عن حبل يعلق طرفاه بالسقف، فيحمل التلميذ حتى تتشابك براجم أصابع يده في وسط الحبل أشباكا لا يمكن أن ينحل متى أرخي الجسم المعلق. ثم يعمد المعلم إلى التلميذ المعلق المسكين، الذي تجول رجلاه في الهواء، فينزل عليه بالسوط حتى يروي منه غضبه.

 

وقد يؤتى عند بعض المعلمين بنار فتوقد تحت المعلق ويجعل فيها بعض الملح، فيرتفع تحت جسم التلميذ المسكين، فيكون بين التعليق والسوط وشرر الملح في أعظم عذاب».

 

فاجعة موت أخي الأكبر و”جنون” الوالد

 

تمر الأيام بعد مأساة الختان، ليترسخ في الذاكرة يوم آخر. في مدخل «أغكمي» ينام شخص مدثرا ويحيط به الجميع، بين الفينة والأخرى. وذات مساء، عمّ العويل المنزل ومحيطه. وهرع بابا الحسن إلى سطح المنزل برفقة الطفل أحمد للنحيب والعويل. فبكى الطفل محاكاة لبكاء الآخرين، دون أن يكون له وعي بما جرى ويجري حوله. إنه العلامة، الأخ محمد بن مسعود، يلتحق بالرفيق الأعلى صيف 1949 وعمر الطفل لم يتجاوز الثلاث سنوات.

 

وفي الأسبوع نفسه، ستترسّخ في الذاكرة تلك العلاقة الملتبسة التي بدأت بين الطفل وأبيه، بعدما استرجع الوالد وعيه بعد فقدان ولده العلامة محمد، فقد كان في غيبوبة تامة.

 

قدم له «الفاسوخ» ليخفف حالته، فأخذ الجمر وأفرغه فوق لباسه. تحولت مأساة فقدان الأخ الأكبر محمد إلى مأساة تُهدد كيان الوالد. تحول أحمد إلى رمز لمواساة الوالد، وهنا تترسخ حميمية طالت العلاقة مدى الحياة. ولادة واكبتها محن الحياة، رحيل بّايلما، استئصال شحمة القلم، رحيل الأخ الأكبر محمد بن مسعود، ومعاناة الوالد لفقدان أعز الناس.

 

جوانب مجهولة من حياة المختار السوسي

 

كانت الإقامة مع المختار السوسي ممتعة غاية ما تكون المتعة، والعلاقة مع معارفه مثمرة وبناءة. ولشدّ ما تأثرت بتواضعه وسلوكه معي وبالدعم الكامل الذي كان يقدّم لي. كان نوعا من التبني النبيل، لم أجد له مثيلا إلا عند العم الشاعر «البونعماني» وشقيقه بابا البشير. واستمررت معه على هذه الوتيرة أياما.

 

بمجالسة المختار السوسي، سمعت منه أحاديث إضافية عن السياسة وتقييما وتشريحا لأحداث كبرى ومفصلية وانتقادا للحياة المعيشة في تلك الظرفية التاريخية. لقد بسّط لي مفهوم السياسة، التي كنت أعدها طلاسم لا يخوض فيها إلا البارعون في التحايل من أجل بلوغ أهداف مُحددة. وما كان ممتعا وجذابا أكثر أنه كان يتحدث شعرا وأدبا وهو يتناول حدثا ما أو يجيب عن سؤال بخصوصه. لقد كان نموذجا خاصا، بخلاف السياسيين الذين سأستمع إليهم أو أتعرفهم فيما بعد.

 

وسأعرف لاحقا، ثم أستنتج، بتجميع المعطيات، لم «غضب» رغم محاولته التكتم وانتقد الوضع صراحة وهو وزير في مجلس التاج والشخصية الأولى المرافقة للملك. وحينما كان يصرح أمام أصدقائه الأخصاء وأحبته بأنه لا مسؤولية له في ما يجري وينتقد الفساد، كان يركز في ذلك على ما له صلة بالجانب الأخلاقي. وسأعرف في ما بعد، أن زيارة مراكش تمت بعد فترة عصيبة في المغرب حديث العهد بالاستقلال، وهو لا يزال في عُشريته الأولى. ففي 1959 زُجّ برمزين من قدماء المقاومة وجيش التحرير، هما محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي في السجن، وكانا من الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل الاستقلال وإرجاع محمد الخامس من منفاه. وترتبت على ذلك استقالة أستاذه المستشار في مجلس التاج، الذي درّس المختار وآواه وساعده أيام دراسته في فاس. كيف للمختار أن يبقى على سكينته وهدوئه، وقد استقال الشيخ مولاي العربي العلوي، أستاذه، من وزارة التاج احتجاجا على الاعتقالات بعد تدخله ونقاشه مع محمد الخامس؟

 

وها أنا معه اليوم من أكتوبر 1963 في رياض مولاي علي في مراكش الحمراء، ومئات المعتقلين في السّجن، وآخرون يلتحقون بالمنافي، من قدماء طلبته في «الزاوية» وأصدقائه في الكفاح، يُقدمون للمحاكمة على أساس أنهم دبروا «مؤامرة لإسقاط النظام الملكي، وهي المؤامرة التي عدّها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مؤامرة من القصر لتصفية الحزب وعُرفت بـ «مؤامرة 1963».

 

خلال مرافقتي له كان فضول المارة بيننا في الدروب التي يمر منها المختار السوسي، بجلال قدره، برفقة شاب مغمور في السادسة عشرة من عمره، ممسكا بيده، التي ظل يفركها وهو يتحدث إليه. وطبعا، لا بد من فائدة علمية أو نكتة لطيفة من حين إلى آخر. كانت نبرة الحزن واضحة في كلامه، ولو أنه يحاول إخفاءها. كان يتألم، كأنه أصيب بخيبة أمل ما. أفاض في الحديث، غير ما مرّة، عن عدم مسؤوليته في ما يجري في البلاد وأن لا أثر لرأيه في القرارات السائدة. بل يذكر أن ما يجري الآن (متحدثا عن تلك الفترة) ليس ما كان مأمولا. كنت أنصت إليه باهتمام، كأني أستلهم ما يمهد لي للاصطفاف مبكرا في المعارضة.

 

سيدي مسعود الطالبي في حضرة السلطان مولاي الحسن

 

شهد الجنوب المغربي وصحراؤه اضطرابات وفوضى وانتشار المجاعة وقيام الفتن، ما اضطر الحسن الأول إلى الالتفات إلى المنطقة وتفقد أحوالها، بهدف إعادة الأمن إليها. وهكذا زار تزنيت، مُلتقى القبائل السوسية والصحراوية. وعن ذلك تحدث ابن زيدان في كتابه «إتحاف أعلام الناس»، قائلا «ولما طرق سمع القواد ورؤساء الأجناد والقبائل ما همّ به المترجم (الحسن الأول) من الحركة بالقطر السّوسي طلبوا لقياه والمثول بين يديه، فلبى طلبهم. ولمّا مثلوا بين يديه قرروا له ما يعانيه أهل ذلك القطر من الشدة والاضطراب والفاقة وتفاحش الغلاء والقحط الواقع بتلك النواحي». واستقبل من قبل زعماء القبائل، فيما انتدب علماء سوس الجد الأعلى لاستقباله باسمهم. وعن ذلك تحدث المختار السوسي: «نزل المولى الحسن حوالي (تزنيت) سنة 1299 هـ (بين 1881 و1882) فهرعت إليه جميع الطبقات من الناس، فكان الأساتذة يردون عليه مع تلاميذهم. كان سيدي مسعود في مقدمة الواردين. فقد قدم تلاميذه، وهم جيش جرّار، واصطفوا في معسكر السلطان مُعلنين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، على عادة الناصريين في أمثال تلك المواقف. فقوبلوا كما يقابل غيرهم. وما كانوا ليطلبوا من السلطان متقبلة، خصوصا من مثل المولى الحسن، الذي كان إذ ذاك بملاطفته يملك القلوب. غير أن السلطان يصدر الجميع بالدعوات والصلاة معا. ولم أتحقق كثيرا كيف كانت ملاقاته معه، وإنما مرّ بي ما ذكرته هكذا إجمالا».

 

أحمد الطالبي يتحدث عن محمد بنونة زعيم حركة 3 مارس 1973

 

كان أغلب اللاجئين الذين وصلوا إلى باريس ممزقين بين تيه الماضي والواقع الصعب الذي يعيشونه والحلم بغد مشرق. فكانوا يواسون أنفسهم بعمل حركي نشيط جامح. وها هو أحدهم يتذكر: كنت مسؤولا عن شبيبة الحزب بمراكش، وكان لي الحظ بأن أتواجد في الدار البيضاء لحظة حملة الاعتقالات في دجنبر من سنة 1969، وهكذا استطعت الهروب من البوليس واللجوء إلى فرنسا. ولا شك أن وجهه الطيب وابتسامته المرحة هي أحسن غطاء يتخفى وراءه في هذا المنفي الجديد. وحالما وصل إلى باريس، عوّض المناضل السابق الذي انكشف أمره عند إنزال الشرطة في شقة شارع «سان دومينيك» واعتقال النمري. ولأنه أصبح رجل اتصال التنظيم في فرنسا، وجد أن عليه أن يعمل كل شيء: يكتري الشقق ويحجز الغرف في الفنادق، متخفيا وراء هويات مختلفة، ويحجز تذاكر الطائرة ويزود بالسيارات ويرتب صناديق البريد، وكذا على وجه الخصوص يخبئ الوثائق والأموال وأحيانا السلاح. كان الرجل يجمع بين روح العمل والعمل التطبيقي ونزوع فطري إلى السرية والتكتم، فكانت له علاقات عابرة مع مسيري التنظيم.

 

كان الفقيه البصري ومحمود دهكون والنمري يلتقونه لقاء عابرا في ساحة بلدية باريس أو فوق جسر نوبي أو داخل المترو، لأن باريس، المدينة ذات المسارات الرومانسية، كانت تعتبر أرضا معادية في خرائط التنظيم. إنه واقع يقلل من الإحساس بالحرية الذي ينتاب المناضل السري حال خروجه من المغرب. لقد كان لسابقة حملة الاعتقال البوليسي التي داهمت شارع «سان دومينيك» وقع تربوي تعليمي، فهو يذكر المناضلين بأنهم في باريس يوجدون في مدينة تعج بالبوليس السري. وقد أدى المهدي بن بركة وأحمد بنجلون وسعيد بونعيلات ثمن تعاون لصيق بين البوليس السياسي المغربي ومصالح المخابرات التابعة للأوصياء الاستعماريين الجدد.

 

وكان هاجس عملية اختطاف ينفذها الأمن المغربي يفرض العديد من إجراءات الاحتياط. فغدا القدر اليومي للمناضلين هو تدريب ذاكرتهم على حفظ لوائح كاملة بأرقام الهواتف والعناوين والانفلات من المطاردات.

 

 

المختار السوسي والشيخ مولاي العربي العلوي

 

كما احتضنت فاس المختار السوسي، احتضنه «شيخ الإسلام» محمد بن العربي العلوي، ماديا ومعنويا: «دخلنا فاسا في اليوم الثالث من محرم 1343 هـ (بين 1924 و1925) أو أول اليوم الرابع، فنظمت أولا دروسي. وبعد أسابيع هدتني الصدف إلى مجلس هذا الأستاذ العظيم فأخذتني أولا فصاحته وصراحته وتضلعه بالعربية والآداب، فلازمته ملازمة الظل للشخص. وبعد نحو شهر، سأل عني الأستاذ بعض الناس فأخبره بأنني سوسي، ثم أدرك أنني ككثيرين من الأفاقين سكان «المدارس». فلا أدري بأي سبب كنت أتكلم معه يوما بعد قيامنا من درس، فقال لي: إنني عرفت من أنت، فالآن أصغ إلي فإنني كنت وفدت على فاس في سنك، فاستفدت من تجربتي. أوصيك ألا تتسلف أبدا من فاسي ولا تتركه يدرك أنك محتاج، فإن ذلك يسقطك من عينه. وها أنذا، فكل ما تحتاج إليه من الدراهم فخذه من عندي، حتى تصلك الدراهم من عند أهلك، وكذلك الكتب، فهذه خزانتي مفتوحة أمامك، فخذ واقرأ ما قدرت عليه.

 

هذا ما رحّب به الأستاذ بتلميذه الغريب، فلا تسل عن مقدار وتأثير ذلك في عواطفي. فكانت كيسه متسلفي دائما أربع سنوات. فلم أذكر أنني كشفت لفاسي هم احتياجي، وكذلك كانت خزانته مورد كل الكتب التي بها أدركت ما أدركت. فكتب المنفلوطي وفريد وجدي «دائرة المعارف» فما دونها، وكتب محمد عبده ورشيد رضى وكتب المحدثين الجدد، كلها ما طالعتها إلا من تلك الكتب الكريمة، وكذلك ما سواها من كتب التاريخ وما تضمه من المجلات. فما كنت أعرف مصر ولا شوقي ولا حافظا، ولا كل أركان الانقلاب الأدبي العصري، ولا كتب أساطين العلم، كفريد وجدي، إلا من أستاذي هذا، فمنه سمعت بهم أولا، ومن مكتبته طالعت كتبهم.

 

الفرنسيون واستقطاب العلماء ودور الحركة الوطنية في حمايتهم

 

عمل الفرنسيون دوما على استقطاب العلماء وعلية القوم والأعيان ورموز الزوايا، إلا أن التيار المغربي التواق إلى التحرر من الهيمنة الاستعمارية كان الأقوى في صفوفها. وقد تعرض أغلب علماء الجامعة اليوسفية للسجن والنفي والتهريب: العلامة عبد الجليل بلقزيز، الرحالي الفاروقي، حسن الزهراوي الرحماني، عبد السلام جبران… كما أن هناك قامة علمية ترمز إلى الزاوية الدرقاوية هو المختار السوسي، الذي سيعرف النفي والسجن وكل أنواع العزل.

 

لا أتصور ابن زاوية بونعمان وشقيقتها إلغ يقدم على خطوة دون استشارة أو دعم من رفيقه المختار. أما رجالات الحركة الوطنية فقد كانوا يستلمون مواقع بتزكية من الملك لتسمح لهم بالتغلغل في الإدارة واستقصاء ما يحدث داخلها. وحينما يتعلق الأمر بنموذج مثل البونعماني فإنه مؤهل للعب هذا الدور. فرجالات الحركة الوطنية رفاقه والمبادرون بتأسيس المقاومة أغلبهم تلامذة المختار: محمد الفقيه البصري، ابن الزاوية الناصرية في دمنات، عبد السلام الجبلي، محمد الحبيب الفرقاني، من المدرسة العتيقة في تاحناوت، العربي بن الناجم المعدري، ابن قرية البونعماني، عمر الساحلي، ابن منطقة الساحل، المجاورة لبونعمان. أما رجالات الأدب والفكر فهم من كانوا قد شكلوا معه من قبل أندية علمية ثقافية: عبد القادر حسن العاصمي، الأديب عبد الله إبراهيم.

 

كان البونعماني يعي ما ينتظره من ضغوط ومراقبة مشددة واصطياد ما يمكن أن يصدر عنه من أخطاء. عمل الفرنسيون على احتواء الوضع، في محاولة منهم استقطاب الحاكم المفوض إلى صفهم وكسبه. وأستطرد هنا لاستذكار رأي الفقيه البصري في موضوع تنصيب البونعماني: «إثر التحاقي بالخارج، أدليت برأي البونعماني في شخص الفقيه البصري، فعقب على رأيي بقوله: في الوقت الذي كان لعاب الفرنسيين يسيل لاستقطاب الأعيان، خاصة أبناء الزوايا، فإن البونعماني كان متعاطفا ومؤازرا لنا ويتعامل معنا رغم مكانته الخاصة».

 

هذا هو المهدي بنبركة الذي سيكون له مستقبل عظيم

 

ومن الطريف أن أورد هنا حديثه عن شخصية المهدي بنبركة، والذي لا نعرف عنه جوانب متعلقة بدراسته الأكاديمية، إذ لا نعرف مثلا أنه «فقيه»، إذ درس كل المتون والمؤلفات المعتمدة في التكوين العلمي للفقهاء والعلماء. وهذه هي التفاصيل بقلم المختار:

 

«وفي 1928 دخل مدرسة الأعيان في باب العلو مع أنه لم ينقطع عن الدروس العربية التي تلقى إذ ذاك في المساجد. وقد كان من أساتذته إذ ذاك الأستاذ سيدي عبد الواحد بن عبل ـ الذي لا يزال حيّا ـ في زاوية «سيدي قاسم»، أخذ عنه «ابن عشير» بـ «ميارة» والأستاذ سيدي المدني بن الحسني، كان يأخذ عنه في الدروس الليلية في «الجامع الكبير» أو في الصبح. وكان يأخذ عنه ليلا «التفسير» وفي الصباح «الموطأ»، والأستاذ سيدي المهدي العلوي في «جامع القبة»، «الموضّح» على «الألفية». وكان قد حضر في صغره دروس أبي شعيب الدكالي في رمضان آخر حياته».

 

وعن شخصية المهدي أورد ما يلي: «ومما ألاحظه من المترجم (يقصد المهدي بنبركة) سرعة تنقله بخفة ومرح حتى في مشيته، فكثيرا ما أقول له إنني لأراك تستمد مشيتك من سرعة فهمك. ولكثرة ملاطفته وكونه قادرا على أن يقابل كل واحد بما يستحقه كنت أقول له ما أجدرك أن تكون وزير الخارجية، فإنه يمكن لك أن تقابل كل سفير على حدة بما يستحقه، فيبش لهذا ويعبس لذاك ويخف في مقابلة ذلك ويثقل إذا دخل عليه آخر، ذلك هو المهدي بنبركة الذي سيكون له مستقبل عظيم إن واتى الدهر ما يتمناه جميعا.

 

حين حول الوطنيون السجن إلى مدرسة حقيقية

 

نظم الوطنيون حياتهم في السجن في كل ما يهم جوانب إقامتهم وكوّنوا لجانا لكل المهام المطروحة. كما حولوا السجن إلى مدرسة حقيقية بجدول عمل دراسي يومي يخص كل اللغات، العربية، الإنجليزية والفرنسية. ولعب كل من المختار السوسي والمهدي بنبركة دورا أساسيا في إنجاح هذه التجربة. كما نُظمت كل يوم اثنين وجمعة محاضرات في المواضيع التي تهم الجانب التكويني أو القضايا الوطنية. وقد تكفل المهدي بنبركة بالجانب التنسيقي، إضافة إلى تكفله بتوفير دورية حول الأخبار الوطنية. وقد ألف المختار السوسي كتابا خاصا في جزءين حول المعتقل استعرض فيه جوانب من حياتهم داخل السجن، كما خصص جانبا مهما من الكتاب للتعريف بكل معتقل على حدة ومتمنياته.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً