محمد المرضي (الروبيو) لـ”الأيام”: هذه علاقتي بالمنجرة ومعتصم وهذا ما نصحني به إدمون عمران المالح (2-2)
هي قصة كفاح دامت عقودا وتستحق أن تروى لكونها تحمل بين طياتها كفاح رجل عصامي قادم من وسط الزحام… نجح في صناعة نفسه بنفسه انطلاقا من أوراش البناء قادما من منطقة أيت اعتاب بإقليم أزيلال ليعتمد على ساعده من أجل توفير قوت يومه، قبل أن يلتحق بمطبخ أحد المطاعم بالرباط، معدا بعضا من الوجبات لزبناء من نفس طينته، حيث كان اللقاء ببعض من باعة الجرائد والمجلات، وكأن القدر يرسم له طريقا غير ذلك الذي وجد نفسه فيه، لتتسبب حادثة نشوب حريق في المطعم الذي كان يوفر من خلاله قوت يومه في الزحف ببطء نحو عالم “صاحبة الجلالة” لكن ليس من بوابة الإبداع ومطارده الأحداث والأخبار، ومحاولة تحليلها لكن فقط كبائع للجرائد… قد يتساءل البعض عن أهمية الجلوس إلى بائع جرائد في زمن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وبعد أن تراجع اهتمام الكثير من المواطنين بالجريدة مفضلين الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن بطلنا من طينة أخرى، فقد دخل إلى هذا العالم أميا وانتهى اليوم محللا لكثير من الأحداث ومعلقا عليها رغم أنه لا يزال يمارس مهنته التي بدأها نهاية الثمانينات وامتلك من خلالها كشكا بشارع محمد الخامس بفضل تدخل عبدالرحمن اليوسفي بتوصية من البرلماني محد بنيحيى، في عهد حكومة التناوب ليغدو صاحب هذا الكشك بمثابة بالون يقيس من خلاله الصحفيون والكتاب وغيرهم من المبدعين مدى انتشار ما تبدعه أقلامهم على صفحات الجرائد أو ما يمضون الليالي والأيام في تحويله إلى كتب… إنه محمد المرضي المعروف بلقب “الروبيوة” نسبة إلى سحنته الشقراء التي تجعل كل من يحملها يطلق عليه هذا اللقب… الروبيو هو من الأشخاص التي لا تخطؤها عين الصحفيين والمثقفين في كل مرور له بشارع محمد الخامس بالرباط، فرغم انتشار العشرات من الأكشاك وباعة الجرائد وعدد من المكتبات وبائعو الكتب، إلا أن للوقوف أمام كشك الروبيو متعة مختلفة، لكونها حتما لن تكون وقفة لاقتناء جريدة أو كتاب ولكن مناسبة لتبادل حديث أو استقراء رأي أو معرفة جديد المطابع مع ملخص حولها وربما حتى حول ما نشر في بعض الجرائد اليومية أو الأسبوعية، والتي لا يتردد عن تقديمها لكل من يمر عليه بطيب خاطر، فضلا عن أنه يعتبر القبلة الأولى للطلبة بحكم تخصصه في بيعه بعض المقررات الدراسية وتوجيههم نحو أماكن أخرى إذا لم يتوفر لديه ما يطلبونه، ما جعل منه أكثر الشخصيات المحبوبة خاصة وأنه يجر وراءه مسارا طويلا نجح من خلاله في أن يحافظ على عزته وأنفته وكرامته رغم العشرات من الشخصيات التي مرت أمام كشكه أو جالسها أو حاورها من مستشارين للملك وبرلمانيين ووزراء وغيرهم، لكنه لم يسبق أن طلب من أحدهم خدمة خاصة لنفسه، فضلا عن عدد من الاحداث التي عايشها في هذا الشارع والتي حكا بعضا منها لـ”الأيام” في هذا الحوار الذي نكتشف فيه بعضا من مساره الذي لا تكفي بضع صفحات لاستحضاره كله لغناه، لكنه فضل الحديث عن أهم ما يراه بمثابة محطة بارزة في مساره، فكان هذا الحوار النوستالجي…
طيب أنت صديق المثقفين والسياسيين والصحفيين وهناك واقعة دفعتك إلى تعلم القراءة والكتابة، فما هي تفاصيلها؟
كنت أتسلم الجرائد وأقوم ببيعها مع المجلات وكانت الأغلبية منها باللغة الفرنسية، ويوما جاء عندي زبون إفريقي وطلب مني مجلة فرنسية تحمل اسم l’évènement du jeudi “حدث الخميس” وعندما رأى أنني لم أعرفها قال لي “من لا يقرأ لا يجب عليه أن يبيع الثقافة” ولم أعرف مغزى كلامه، وكان حاضرا خلال هذه الواقعة أحد الأصدقاء من رجال الشرطة توفاه الله وكان يجلس إلى جانبي وقال لي “هل فهمت ماذا قال لك”، قلت له: لا، فقال لي: ابتداء من اليوم يجب أن تقرأ وهذا ما قاله لك، وبالفعل تأثرت كثيرا بتلك الواقعة وقررت أن أقرأ وكان لهذا الشرطي فضل في دفعي إلى القراءة حيث كنت أضع الجريدة أو المجلة بين يدي وأنظر إليها وأحاول تعلم الحروف وحفظها وهكذا كل يوم حتى تعلمت، وبدأت أكتشف ما تتم كتابته في الجرائد والمجلات التي كنت أقوم ببيعها.
مثل ماذا؟
في تلك المرحلة ما بين الثمانينات والتسعينات، كانت هناك حركية جميلة جدا، وكان المواطن همه الأول هو الوطن، كما كان هناك كم هائل من المواطنين الذين يحملون هم الوطن في داخلهم عكس اليوم مع كامل الاحترام للجميع لان المواطن اليوم لم يعد يهمه من الوطن سوى المادة والكل يريد أن يغرف لنفسه وأصبح الوطن اليوم مثل الشجرة التي لا تعطي أي غلة ونحاول قطعها وننسى أن تلك الشجرة تمنحنا الظل وتمنحنا ثاني أوكسيد الكاربون الذي تمتصه لأن ما يهمنا منها هو ما سنأخذه منها وهكذا الوطن اليوم الذي لا يمنح فقط المادة ولكن أيضا الدفء والإحساس بالانتماء وللأسف كل واحد إذا لم يمنحه الوطن أي شيء يكفر به.
لقد عشت مع تعلمي للقراءة والكتابة، تحولات هذا الوطن، وكنت أعيشها بكل وجداني، وكان الكثيرون يساهمون في البناء سواء رجل التعليم أو الصحفيين أو المثقفين وغيرهم، وكان الذي يأخذ المجلة أو الكتاب وبعد قراءته وعندما يعود عندي يقترح أن أقوم بالترويج لهذا الكتاب أو ذاك بعد أن يضعني في الصورة أو ملخص مضامينه، كما يمكن أن يقترح علي الفئة التي يمكن أن أستهدفها.
هل يمكن القول أنه من هذه الفترة بدأ شغفك بتقديم ملخصات لمضامين الجرائد أو الكتب التي تبيعها؟
نعم، والأكيد أن الناس والزبناء كان لهم دور في هذا الشغف، وأنا أسميهم جنود الوطن ولم يكونوا يظهرون على سطح الأحداث وكانوا قوة اقتراحية بالنسبة لي في تطوير طبيعة الكتب التي أقوم ببيعها، لكن للأسف اليوم كثيرون يأتون ويسألون عن الكتب التي تباع حتى يأخذها دون أن يعرف مضامينها لأن الهم اليوم هو الامتحانات والمقررات وليس التثقيف وهذا جعلنا نتخبط في مشكل آخر، حيث أنني أصبحت اليوم أرى هل سيكون للقراءة مستقبل في المغرب وهذا هو المشكل الحقيقي الذي أعيشه اليوم، خاصة عندكما تجد رجل تعليم، مع احترامي لهم، لا يبحث حاليا سوى عن ما يهم مهنته وكفى الله المؤمنين شر القتال دون بذل أي مجهود في الاطلاع على الجديد.
ما قصتك مع الفتاة الأمريكية التي كانت تسكن معك لفترة؟
فعلا، كانت هناك فتاة أمريكية تقطن معي وكانت تدرس اللغة واللهجات المغربية في بداية التسعينات وكنا نتحدث يوما وقلت لها لماذا تقومون بدراسة اللغات واللهجات المغربية وكذا العادات والتقاليد رغم أن لديكم لغة عالمية، وقالت لي لن تعرف لماذا ولكن مستقبلا ستعرف لماذا وهذا كان قبل عهد ميخائيل غورباتشوف الذي أقر سياسة “البيريستوريكا”، كما قالت لي أنه في المستقبل، ستكون أمريكا هي حاكمة العالم وستحكم من خلال معرفتها بلغات واقتصادات الدول وإذا حدث ذلك يوما ما وكانت لدينا قضية أو وظيفة سنقوم بترجمتها نحن وليس من جهة نظر أخرى ونحن سنقوم من خلال ذلك بتوفير أموالنا وفي نفس الوقت سنحكم العالم اقتصاديا ولذلك نحن نقوم بدراسة هذه اللهجات، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومجيئ حرب أفغانستان والخليج بدأت افهم تلك الصورة والحديث الذي دار بيني وبين تلك الأمريكية ولذلك أنا أقول دائما بأن التعليم هو مفتاح التواصل مع الشعوب ومعرفتها.
عام 2001 منحك المهدي المنحرة جائزة التواصل شمال جنوب، حدثنا عن علاقتك بالمنجرة وأهمية هذ الجائزة بالنسبة إليك؟
هذه الجائزة كانت بمثابة اعتراف من المهدي المنجرة رحمه الله بهذا العبد الفقير، وهي تشجيع لي من أجل مواصلة عملي ولإنسان أمي تعلم القراءة وعرف ما يدور حوله وأنا فخور بهذه الجائرة، علما أن علاقتي بالمنجرة كانت رائعة وكان لي دائما شرف بيع كتبه التي يصدرها وكان دائما يخبرني بموعد صدورها ويمنحني النسخ الأولى من المطبعة إلى كشكي قبل الجميع وكان يقول لي دائما أنه يريدني أن أكون أول بائع لكتبه وللاستفادة منها قبل الجميع.
مجموعة من الشخصيات من بين زبائن كشك من بينهم الراحل المستشار الملكي محمد معتصم والذي كان يقتني منك كتب خاصة بالدراسات الدستورية، كيف كانت علاقتك معه؟
السي معتصم رحمه الله كان صديقي منذ أن كان أستاذا في الجامعة وكان يقتني مني الكتب وحتى عندما أصبح مستشارا كان يأتي عندي (وأنا غير اللي ما بغاش يتصاحب معليا حيث ما عمري نطلب منو شي حاجة)
لماذا؟
لا أحب استغلال مثل هذه المواقف وأنا أعرف أن بإمكاني أن أقوم بتقديم طلب له، لكنهم كانوا يعرفون أنني لن أطلب منه أي شيء.
طيب لنعد لعلاقتك بمعتصم؟
كانت علاقتي معه جيدة، وكنا نناقش مواضيع مختلفة رغم أنه مستشار لجلالة الملك لكن لم يسبق لي أن ناقشت معه مشاكلي. وكان بعض الناس يستعمون يوما لحديثي معه ومنهم أستاذ جامعي وآخرين مستورين و”لابس عليهوم”، وعندما ذهب سألوني حول ما إذا كنت أعرفه وأعرف من هو وأينيعمل ومع من؟ وعندما أجبت بالإيجاب قالوا لي بالحرف: طلب منو يضبر عليك وضرب أيديك، قلت لهم لست محتاجا، وعندما لاحظوا إصراري على عدم طلب أي شيء منهم قال لي واحد منهم: أعرف أنك أبي النفس فاربط لي علاقة معه وأنا سأطلب منه، علما أن هذا الشخص المعني، كانت لديه سيارتين ومنازل وغيرها، فاستغربت لذلك وماذا سيطلب منه، وأنا أرفض ذلك رغم أن ليست لدي سيارة ولا أملك سوى شقة اقتصادية بسلا الجديدة ومستور والحمد لله وأولادي عاطلون عن العمل، وهذه من القصص التي وقعت لي مع معتصم وليس هو فقط ولكن هكذا كانت علاقتي مع كل الشخصيات التي كانت تزورني في الكشك مثل محمد مرادجي الذي يقتني مني الجرائد والمجلات ونضحك قليلا ونتبادل النكت ثم يذهب كل واحد لحال سبيله.
طيب ما هي النصيحة التي قدمت لك من طرف بعض الشخصيات التي كانت تزورك في مقر عملك والتي ترى أنها كان لها تأثير كبير عليك؟
كان هناك الكاتب إدمون عمران المالح الذي جاءني يوما بعد أحداث 11شتنبر 2001 وكان دائما يأتي عندي ويجالسني ويقتني الجرائد الفرنسية مثل لوفيغارو ولوموند، وسألته بعد أحداث 11 شتنبر عن ماذا وقع في العالم؟ وقال لي: ابتداء من اليوم ستبدا خريطة جديدة في التشكل على الصعيد العالمي وإذا كنت تتناول فنجانين أو ثلاث فناجين من القهوة كل يوم، فيجب عليك منذ الآن تناول فنجان واحد فقط، فربما ستكون مستقبلا غير قادر حتى على تناول ذلك الفنجان الواحد، لأن ما يحدث كبير جدا وستكون له آثار كبيرة على الدول ومستقبلها والتي ستريد العيش ستكون تحت رحمة تلك التي تملك الأموال، وهنا ربطت بين ما قاله لي وما قالته لي تلك المواطنة الأمريكية التي كنت أسكن معها قبل سقوط الاتحاد السوفياتي لكون ما حدث بعد 11 ستنبر جاء في نفس السياق، وهذا من ثمرات مخالطتي للناس وحتى عندما انتشرت كورونا لم يكن لي مشكل واستحضرت خلفيات 11 شتنبر وأيضا عندما حدث الربيع العربي استحضرت ذات الخلفية وكل ما يقع اليوم أعتبر أن ما وقع في ذلك اليوم هوما نرى نتيجته اليوم.