“رحلت حنين ورحل معها عكاز عجزنا”
"إنها حنين يا حسين، والله إنها حنين! ما إلها مكلماني إمبارح وتحكي لي إن الوضع خطير جدا والقصف في كل مكان!"
هكذا صرخت آلاء، مخاطبة زوجها حسين عندما بلغها نبأ مقتل صديقتها المقربة حنين التي كانت مثلها تبلغ من العمر 34 عاما قبل نحو أيام في غارات شنتها القوات الإسرائيلية على مدينة غزة.
آلاء من أبناء المدينة، وقد تركتها قبل فترة قصيرة وانتقلت مع زوجها وأبنائها الثلاثة إلى تركيا بحثا عن حياة أفضل. وكغيرها من أبناء قطاع غزة المغتربين، تعيش آلاء في حالة قلق وترقب دائمين منذ بدء الحرب الأخيرة، ولا سيما مع الانقطاعات المتواصلة للكهرباء والإنترنت وصعوبة الاتصال بالأهل والأصدقاء، والارتفاع المتواصل في أعداد القتلى.
"عائلتي وأصدقائي ومعارفي يقيمون في غزة، ولذلك فأنا تقريبا لا أنام، بل أشاهد الأخبار على مدار الساعة، وأتفقد كافة منصات التواصل الاجتماعي، كتليغرام وواتس آب وغيرهما".
ومثلها مثل العديد من الفلسطينيين المغتربين الذين تحدثت إليهم، تتنفس آلاء الصعداء عندما تتمكن من التواصل مع ذويها وأصدقائها في قطاع غزة، ولو من خلال رسالة قصيرة لا تتجاوز بضع كلمات، تتأكد من خلالها أنهم ما زالوا على قيد الحياة.
"كانت [حنين] تتواصل معي دائما خلال الحرب، وتطمئنني عليها وعلى أبنائها الستة وزوجها الذي كان شريكي في العمل".
- هكذا ينتظر الفلسطينيون في الخارج خبراً من أهلهم في غزة
- "كيف سينظر أطفال غزة الناجون من هذا الهجوم العنيف إلى من سمحوا بارتكابه؟" - الغارديان
- كيف تبدو أوضاع مستشفيات قطاع غزة مع استمرار الغارات الإسرائيلية؟
تقول آلاء إن حنين كانت بمثابة أخت لها، حيث ربطتهما صداقة منذ سنوات عديدة، كما درستا القانون معا بالجامعة. "وما إن تخرجتُ وبدأت في مزاولة المحاماة، كان محمد زوج حنين شريكا لي في مكتب استشارات قانونية في برج وطن الذي دُمر في غارة إسرائيلية أثناء هذه الحرب".
"كانت [حنين] أما مثالية لأبنائها الستة، وعندما كنت أستغرب لإنجابها هذا العدد الكبير من الأطفال، كانت تقول: عندما أكبر، سيكونون لي عونا في كبري. كانت تهتم بأدق تفاصيل حياتهم، من ملبسهم وهيئتهم وعطورهم ومكاتب دراستهم. كانت تقضي ما لا يقل عن 6 ساعات يوميا في مساعدتهم في مراجعة دروسهم".
"وعندما كنت أشكو من أنني أواجه أضعاف الصعاب مع أبنائي كونهم يدرسون باللغة التركية، كانت تنصحني بألا أضجر، لأن الأبناء على حد قولها هم عكازنا وقت عجزنا، وسندنا وقت كبرنا".
تتذكر آلاء كيف كانت حنين تحاول أن تتحلى برباطة الجأش وتبدو متماسكة رغم كل ما يجري حولها. "كانت هي من يطبطب على قلبي في هذه الحرب الشرسة".
مع اشتداد القصف الذي يتعرض له قطاع غزة، بدأت آلاء تستشعر مزيدا من الخوف في لهجة حنين، التي صارت تحدثها عن ازدياد خطورة الأوضاع في مدينتها.
كانت المرة الأخيرة التي تواصلت فيها الصديقتان قبل يوم واحد من تلقي آلاء خبر مصرع حنين.
"أخبرتني عن تعاقب أصوات الانفجارات المدوية، وكيف كانت تثير ذعر أبنائها، ولا سيما الصغار منهم الذين كانوا يصرخون في كل مرة يسمعونها. كانت تحاول أن تهدئ من روعهم، على الرغم من أنها كانت خائفة أكثر منهم".
- يوميات امرأة حامل في غزة: "بكاء مولودتي يعني أننا لا نزال على قيد الحياة"
- مراسل بي بي سي في غزة يرصد الأوضاع داخل المستشفى الأهلي العربي المعمداني
أخبرني كل من تحدثت إليهم من أبناء غزة المغتربين بأن أكثر ما يخشونه وهم يتابعون وسائل الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي هو رؤية صور ضحايا لأشخاص يعرفونهم، أو قراءة منشورات النعي التي كثيرا ما تحتوي على صور أو أسماء مألوفة لهم.
قبل حوالي أيام من كتابة هذه السطور، وقع أكثر ما كانت تخشاه آلاء.
"كانت الساعة الواحدة بعد الظهر عندما وجدت منشورا لمحامية من غزة تنعى فيها المحامي محمد النجار ووالده القاضي فهمي النجار ووالدته القاضية فاطمة المخللاتي وزوجته المحامية حنين النجار وأبناءهما الستة فهمي وعمر وعبد الرحمن وفاطمة ويوسف وأنس، وشقيقه فارس وزوجته وأبناءهم الأربعة.. صرخت بأعلى صوتي: إنها حنين يا حسين، والله إنها حنين!".
حاولت التواصل مع بضعة أشخاص آخرين من أهل غزة المقيمين في الخارج ممن فقدوا أقارب أو أصدقاء في الحرب المستمرة هناك، ولكنهم لم يستطيعوا الحديث نظرا لما يسيطر عليهم من مشاعر الحزن والأسى والحداد على أعزائهم. أحد هؤلاء فقد أكثر من 40 فردا من أفراد عائلته.
وربما خشية منها أن تغلبها الدموع ولا تستطيع مواصلة الكلام، آثرت آلاء أن تتواصل معي من خلال الكتابة. بدا من كلماتها أنها ما زالت تحاول استيعاب ما حدث لحنين وعائلتها.
"كانت تخبرني أننا سنلتقي. لقد أقسمت أننا سنجتمع مجددا لكنها حنثت بيمينها ورحلت، رحلت دون وداع. رحلت حنين ورحل معها عكاز عجزنا".