انتقلت قيمة شهادة البكالوريا بشكل سريع في السنوات الأخيرة مع ازدياد منسوب الضغط النفسي لدى التلاميذ والأسرة معا من “شهادة تفتح الآفاق الدراسية والمهنية”، إلى مسألة “حياة أو موت” عند البعض، إذ أصبح عدم الحصول عليها في نهاية السنة منذرا بالإحباط والاكتئاب الذي قد يؤدي إلى الانتحار في بعض الأحيان.
الحادث المأساوي الذي هز مدينة آسفي أمس الاثنين، الذي لفظت من خلاله تلميذة في السنة الثانية بكالوريا أنفاسها الأخيرة بعدما رمت بنفسها من أعلى جرف أموني بشاطىء حاضرة المحيط الأطلسي، حيث ارتطمت بالصخور المصطفة على هامش الشاطئ، بسبب طردها من الامتحان بعد ضبطها في “حالة غش”، يطرح السؤال حول “دور الأسر والمؤسسات التعليمية في المواكبة النفسية للتلاميذ المقبلين على اجتياز الاختبارات الإشهادية”.
وحذر الخبراء والاختصاصيين في علم النفس التربوي على ضرورة إعداد التلاميذ المقبلين على الامتحانات الإشهادية من الناحية النفسية التي تعتبر الأهم في المرحلة الأخيرة من الموسم الدراسي، لتفادي الوقوع في براثن الأسى والحزن والاكتئاب الذي تنتج عنه حالات نفسية شاذة تؤدي إلى أشياء “لا تحمد عقباها”.
اختلاف الأسر المغربية
في هذا الإطار، قال بوشعيب الباز، المستشار التربوي والنفسي، إن “الأسرة المغربية تختلف من بيت إلى بيت، وظروف الإعداد والتحضير للبكالوريا عند بعض الأسر غير متوفرة، الأمر الذي يحدث بعض الضغوط النفسية للتلاميذ المقبلين على اجتياز الاختبارات الختامية للسنوات الدراسية، مما يؤدي إلى ارتكاب أفعال غير محسوبة”.
وأضاف الباز، في تصريح لـ”الأيام 24″، أنه “يجب على الأسر مراعاة الظروف الصعبة التي يمر منها الأبناء المقبلون على امتحانات البكالوريا وخاصة على المستوى النفسي”، مشيرا إلى أن “نفسية التلميذ هي الفيصل في تحقيق شهادة البكالوريا من عدمها، والتنافس عليها أمر محمود لكن دون حدوث أي فعل مأساوي”.
وتابع المتحدث عينه أن “غياب البدائل ومطالبة الأسرة بضرورة تحقيق النجاح ونيل شهادة البكالوريا، يوقع التلاميذ في مسلسل الاحباط النفسي الذي يؤدي إلى اكتئاب حاد، الشيء الذي يجعل التلميذ إما يلجأ إلى استعمال المخدرات أو يقدم على الانتحار”.
وأشار المستشار النفسي إلى أن “بعض التلاميذ يلجأون إلى استخدام مختلف وسائل الغش الممنوعة في القوانين المنظمة من أجل الفوز بالشهادة لكن عندما يقع في قبضة اللجنة المكلفة بالمراقبة يصاب بأزمة نفسية حادة، نفس الأمر ينطبق على التلاميذ الذين اشتغلوا كثيرا قبل الامتحانات لكن لم يتوفقوا في نيل شهادة البكالوريا”.
وأوضح أيضا أنه “في هذه الحالات التي ذكرنها سابقاً يفضل التلميذ إداء جسده لتحقيق الراحة النفسية، وعلى الأسر تخفيف من الضغوط التي تمارس في حق الأبناء الذين يجتازون الامتحانات الإشهادية، وبالتالي هناك بعض العوامل الوراثية التي تجعل التلميذ يقوم بمجموعة من التصرفات غير اللائقة”.
وأشار إلى أن “المجتمع العربي أصبح ينظر إلى البكالوريا بأنها مفتاح لفتح مجموعة من أبواب الدراسة والشغل، وأن الحصول على المعدلات العالية أفضل لبعض الأسر من تحقيق الراحة النفسية للتلاميذ”.
وخلص الباز حديثه قائلا: “التلاميذ الذين يستعدون منذ بداية السنة هم الأغلبية التي تتعرض إلى الضغوط النفسية سواء الاحباط أو الاكتئاب أو الوساوس القهرية، وأن المدرسة بدورها تلعب دورا سلبيا لأنها لم تقم بالتوعية النفسية أو برامج من أجل كسب الثقة”.
ضغوط نفسية مزدوجة
من جهتها، ترى خديجة وادي، منسقة ماستر علم النفس الإكلينيكي الديناميكي والماستر الجامعي المرضي الإكلينيكي الديناميكي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل، ورئيسة جمعية “الاتحاد الوطني للأخصائيين الإكلينيكيين”، أن “تحقيق مواكبة نفسية جيدة للتلاميذ لا بد أن نفهم ما يتعرض له التلميذ ضمن هذه المرحلة بالذات، التي هي مرحلة الباكالوريا، ويمكن القول بأن التلاميذ في هذه المرحلة يعانون من ضغوط نفسية مزدوجة أولا لأنهم يعيشون مرحلة المراهقة وما تحمله من اختلالات هرمونية ونفسية على حد سواء”.
وأردف وادي، في تصريح لـ”الأيام 24″، أن “المراهق يعيش ضمن وضعية يسعى من خلالها إلى التحرر من التبعية للوالدين ليبني شخصية مستقلة ستمكنه لاحقا من إثبات الذات كراشد يتحمل مسؤوليته ومسؤولية أشخاص ٱخرين فيما بعد”.
وتابعت رئيسة جمعية “الاتحاد الوطني للأخصائيين الإكلينيكيين” حديثها: “لكن كونه تلميذا يفرض عليه التقيد بسلوكيات ونمط حياة محدد فيه الكثير من الخضوع للراشدين المحيطين به، سواء أساتذته أو ٱباؤه الذين أصبحوا يفرضون أسلوب حياة خاص لإنتاج التفوق المدرسي على حساب حرية الاختيار”.
“لقد أصبح التلميذ مطالب بالتفوق على ذاته كما لو كنا نهيء خيول السباق، وبذلك يعيش ضمن دائرة مغلقة تتمحور حول التحصيل، بل قد تتحول حياته إلى نمط ممل وخال من الابتكار ، وقد يتفنن الٱباء لانتزاع أي فرصة للمتعة، هذا ما يجعله يعيش وضعا متناقضا بين كونه في مرحلة هشاشة نفسية وبين مطالب الأسرة والمدرسة اللتان تفرضان عليه في هذه المرحلة اختيارات تتجاوزه”، تورد المتحدثة.
ولفتت منسقة ماستر علم النفس الإكلينيكي الديناميكي والماستر الجامعي المرضي الإكلينيكي الديناميكي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل إلى أن “اقتران المرحلة بمرحلة الباكالوريا يضع التلميذ ضمن معادلة جد معقدة، فالحصول على شهادة الباكالوريا معناه الحصول، من وجهة نظر المجتمع المغربي، على مفتاح النجاح في الحياة، لذلك تتدافع كل من الأسرة والمؤسسة التعليمية من أجل فرض ضغط أكبر على التلميذ، أضف إلى ذلك أن تضاعف الضغوط من أجل الحصول على التفوق المدرسي الذي يعني حصول التلميذ في نظرهم، على مكان ضمن مدرسة مرموقة، تنقد مستقبله الغامض، (قد تكون مدرسة للهندسة أو جامعة للطب أو…..)”.
وأكدت أيضا أن “الدخول ضمن هذا التحدي يحول الٱباء إلى جلادين، لا يعيرون أي اهتمام لما قد يعيشه التلميذ من مشاكل نفسية لأنهم وبدون قصد منهم، قد يدفعون به إلى الانعزال والانطواء. لذلك فمن السهل أن لا تنتبه الأسرة إلى ألمه النفسي وإلى مخاوفه الكبيرة من الفشل مما يحول يوم الامتحان إلى يوم عسير يرتبط به المستقبل كله”.
وزادت: “لذلك سيعتبر الفشل فيه فشلا في الحياة، بل إنه سيخشى من غضب الأسرة. و كلما كبر هذا الوهم إلا وازداد رعبه من هذا الشبح. إن هذا الرعب هو ما يجعله يفشل في المواجهة، ويقلص حضوض تفوقه”.
وأوضحت أن “هذا الواقع المزدوج، واقع الرغبة في الحصول على شهادة الباكالوريا بالتزامن مع مرحلة المراهقة التي تعرف تقلبات على مستوى المزاج، نجد بأن التعرض لضغط مضاعف من شأنه أن يفجر اضطرابات نفسية كامنة، من بينها الحالات الاكتئابية التي تظهر بشكل مفاجئ مما يجعل التلميذ في خطر محقق (كالانتحار مثلا) أو حتى أحيانا الدخول ضمن دائرة الإدمان دون أن ينتبه إليه أحد”.
وتابعت: “لم لا القول بأن صدمة الامتحان هذه من شأنها أن تظهر كل الاضطرابات الكامنة والتي كانت تنتظر فرصة الظهور، سواء تعلق الأمر باضطرابات عصابية أو ذهانية؟”.
لا شك أن الضغط النفسي له انعكاسات مدمرة على تحصيل التلاميذ وقدراتهم العقلية… ولا شك أيضا أن الأسر والمؤسسات التعليمية يمكنها أن تجد حلولا تخفف من حدته، سواء من حيث التوجيه والتفهم، وأيصا من حيث إعادة النظر في منظومة التقييم ذاتها وأشكال وصيغ الامتحانات…. لكن هناك عامل خطير آخر له دوره في تلطيخ عقول أبنائنا وجعلهم ينحرفون في تفكيرهم خلال الامتحانات عما هو أهم، وهو وجود فئة ممن ينسبون أنفسهم للإعلام ويعملون بكل بلادة وجهل على تكريس مفاهيم وتصورات خاطئة لدى التلاميذ… بالله عليكم أين يمكن تصنيف ذلك المهرج وتلك المهرجة التي تلهث وراء التلاميذ بمجرد خروجهم من قاعة الامتحانات ليسألهم أو تسألهم، لا عن مضامين الامتحانات ومدى انسجامها مع المدة الزمنية ومع البرامج….الخ، بل عن الحراسة!!! هل كانت الحراسة متساهلة معكم؟ وكأن الغش حق وشيء لازم وأن الحراسة إذا كانت لا تقوم بواجبها فإن الامتحان يمر في ظروف جيدة والعكس بالعكس… لا بد من اعتبار مثل هؤلاء المهرجين أيضا من بين المتدخلين السلبيين في إفساد أجواء الامتحانات والرفع من الضغط النفسي لدى التلاميذ، خاصة منهم من تعذر عليهم الغش وعلموا عبر مهرج أو مهرجة أن أقرانهم “سعدوا” بحراسة الله يعمرها دار…