الرباط بين تل أبيب وباريس
شاهد :
تحولان وازنان يقعان في منطقتين متباعدتين وبعيدتين جغرافيا عن الرباط، ولكنهما مؤثرتان بشكل مباشر علينا. إنهما تل أبيب، حيث انسحب الوزيران غانتس وأيزنكوت مما هز الحكومة الإسرائيلية سياسيا وإن لم تفقد أغلبيتها العددية في الكنيسيت، وباريس حيث حقق اليمين المتطرف بزعامة التجمع الوطني لماري لوبين وجوردان بارديلا اكتساحا غير مسبوق في الانتخابات الأوروبية، بحصوله على ما يقارب الأربعين في المائة من الأصوات، وهو أكثر من ضعف ما حصل عليه تحالف الرئيس الفرنسي، مما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حل الجمعية العمومية والإعلان عن انتخابات تشريعية سابقة لأوانها.
في إسرائيل، لا يتعلق انسحاب بيني غانتس برهان سياسي داخلي فحسب، بحيث جرت أكثر من أربع انتخابات في تل أبيب في غضون أربعة أعوام، ولكن بِرِهان وجودي تخوض فيه الدولة الصهيونية بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أبشع الحروب التي عرفها العالم، وهي مصنفة اليوم حرب إبادة جماعية ضد ما يناهز المليونين ونصف المليون فلسطيني بالقطاع.
لابد أن نعرف أن غانتس وأيزنكوت كانا في المعارضة، والأهم أنهما كانا قائدين سابقين للجيش الإسرائيلي، وبعد «طوفان الأقصى» انضما إلى مجلس الحرب كوزيرين. ولكن المنحى الذي اتخذته الحرب والذي أصبح في النهاية جريمة ضد الإنسانية راح ضحيتها لحد الآن أكثر من 40 ألف شهيدا أغلبهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 80 ألف جريح، هذا المنحى دفع الرجلين إلى الاستقالة وهو عنوان هزيمة سياسية مُدوية لإسرائيل في هذه المواجهة التي جمعت بين مقاومة ودولة احتلال.
والسؤال البليغ الذي يُطرح في هذه النازلة هو أن هؤلاء الساسة الإسرائيليون قد جمعتهم الحرب، فما الذي فرقهم الآن؟ يجيب غانتس بكل وضوح: «لغياب استراتيجية لفترة ما بعد الحرب في قطاع غزة، وأننا بصدد الفشل في الحرب ضد حماس.. وأخفقنا في الامتحان ولم نتمكن من إعادة المختطفين».
إن التحالف الذي جمع نتنياهو مع المتطرفين الذين يلامسون جدار الإرهاب المتمثلين في وزير المالية سموتريتش ووزير الأمن القومي بن غفير لم يسبق له نظير في أي حكومة إسرائيلية سابقة. إنهم مجانين يعتقدون أن إبادة الفلسطينيين تعاليم دينية، وأن بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى برنامج آني، وقد شارك الوزيران الدمويان في اقتحام باحة المسجد الأقصى الأسبوع الماضي، مما استوجب بلاغ تنديد رسمي مغربي.
علاقة الرباط بما يحدث في الشرق الأوسط وطيدة، فنحن طبعنا العلاقات مع إسرائيل في إطار اتفاق ثلاثي ضم الولايات المتحدة الأمريكية أيضا، والمغرب ليس طارئا على هذا الملف منذ أن كان الحسن الثاني يمثل طرفا وازنا في النزاع رغم بعد المسافة بيننا وبين المنطقة. وأهم القرارات العربية حول القضية اتخذت بمراكش وفاس والدار البيضاء والرباط. وكان في وقت من الأوقات ثلث سكان إسرائيل من اليهود المغاربة، وارتباط المغرب بالقضية الفلسطينية له جذور ثابتة في الوجدان وفي السياسة. ورغم كل هذا تبقى المصالح الوطنية في القضايا المصيرية محددة في اتخاذ المواقف، وهذا حال الاتفاق الثلاثي الذي كانت فلسفته أن المغرب سيكون أفيد للقضية الفلسطينية من موقع التطبيع أكثر منه من موقع آخر، وجاء هذا بوضوح في رسالة جلالة الملك للرئيس الفلسطيني محمود عباس حينها. زد على ذلك أن ملك المغرب هو رئيس لجنة القدس، وعموما العالم العربي تجاوز لاءات الخرطوم الشهيرة التي لم تكن تعترف بإسرائيل كدولة، والمشكل اليوم أصبح في اعتراف إسرائيل بفلسطين كدولة وليس العكس.
من كل هذه المنطلقات، وبغض النظر عن الكثير من القرارات التي اتخذتها دول أخرى من أمريكا اللاتينية أو آسيا أو إفريقيا تجاه الكيان الصهيوني، فإن ما جرى داخل إسرائيل نفسها، وانتفاضة رئيسي أركان حرب سابقين وخروجهما من هذه الحكومة الدموية يعتبر أثقل وأكثر مدعاة للتفكير في قطع حبل هذا الاتفاق التطبيعي، ليس مع إسرائيل، ولكن مع هذه الحكومة التي ظهر بعد أكثر من ثمانية أشهر أنها تقود حرب إبادة فعلية للشعب الفلسطيني الأعزل بقطاع غزة وبالضفة الغربية، وتستبيح المقدسات الإسلامية، وتعلن بلا مواربة عدم إيمانها بحل الدولتين وتتهيأ للاستحواذ على المسجد الأقصى.
المغرب لا يساوم، ولذلك أقدم جلالة الملك محمد السادس على إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي سنة 2000 ولأسباب تبدو، من خلال البلاغ الرسمي آنذاك، وكأنها تتحدث عن الآني مع أن مذابح اليوم أهول وأفظع: «انتكاسة عملية السلام عقب الأعمال اللاإنسانية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية منذ أسابيع في حق أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل – يقول البلاغ – واستخدامها الآلة الحربية لقتل المدنيين والأبرياء.. ونظرا للظروف الخطيرة التي خلقتها الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وموقفها المتعنت بإعلانها عن توقيف عملية السلام، ونظرا لمسؤولية المغرب والتزاماته في نطاق لجنة القدس التي يرأسها الملك محمد السادس عاهل المغرب من أجل دعم عملية السلام».
المغرب سيد موقفه، ولذلك فهو قادر أن يقلب الطاولة على المتجبرين وناقضي العهود، وإذا كان تطبيع الضرورة مع إسرائيل مبرراً فإن التطبيع مع حكومة يقودها من يمكن أن يصنفوا في عداد «الإرهابيين» أصبح عبئا أكثر منه أداة لجعل المغرب الفلسطيني الهوى قادرا على خدمة قضية السلام، والسلام.
وأما عمّا يجري في باريس، بعد الهزيمة المدوية للتحالف الحاكم في الإنتخابات الأوروبية، فأعتقد أن لا مجال للتشفي في السياسة، وأعتقد أنه منذ عهدة فرانسوا ميتيران لم تعرف العلاقات المغربية الفرنسية تأزما كالذي عرفته مع إيمانويل ماكرون. وهذا الرجل اليوم أقدم على مقامرة سياسية سبقه إليها دوغول وجاك شيراك، وكل استطلاعات الرأي تذهب إلى أن حزب التجمع الوطني للوبين وبارديلا قد يشكل الحكومة بعد 7 يوليوز بحصوله على الأغلبية النسبية على الأقل، وسيتعايش مع ماكرون كرئيس إلى غاية 2027.
قد يبدو هذا مبعث ارتياح للرباط، ولكن حذار من ارتياح زائف. فما جرى في البرلمان الأوروبي بحصول اليمين المتطرف في كل أوروبا على أكبر عدد من المقاعد (186 على 720) وما يجري من زلزال سياسي بفرنسا هو تحول خطير ينذر بأزمات مع حلفاء القارة العجوز أو شركائها في الضفة الجنوبية.
إن الحل بالنسبة لليمين المتطرف لكل مشاكل أوروبا هو الانغلاق ورفض الآخر والتقوقع والحمائية، وهذا يستهدف بالخصوص المهاجرين المغاربيين والمنتجات الفلاحية جنوب المتوسط. ويعتبر برنامج اليمين المتطرف في فرنسا مخيفا بحيث يضع ملفين أساسيين في الصدارة قبل حتى ملف القدرة الشرائية والأوضاع المعيشية، هما ملفا الهجرة والأمن. ويعتقد هذا اليمين المتطرف أن الهجرة تهديد لفرنسا ولهويتها ولأمنها وأنها حرب حضارية من الإسلام – وليس الإسلام السياسي – على الحضارة المسيحية، وأنه يجب طرد كل الفرنسيين المسلمين الذين يحكم عليهم بالسجن حتى في الجنح العادية، ومنع التجمع العائلي والتشدد في منح اللجوء السياسي والإنساني، والحد الصارم من الهجرة، واعتبار الأحياء التي يقطنها المغاربيون والمسلمون بمثابة قندهار وتطويقها أمنيا، بل وصل الأمر إلى حد مطالبة إيريك زمور زعيم حزب «الاسترداد» بتجريم من يسمي أبناءه من الفرنسيين من أصول مغاربية «محمد» أو غيره من الأسماء الإسلامية!
وعلينا أن نعود إلى أزمة التأشيرات التي عانى منها المغاربيون عندما قلصتها فرنسا ماكرون بسبب ضغط اليمين المتطرف، وما سببته من مصائب للمواطنين وكانت علامة من علامات التوتر السياسي بيننا وبين باريس، فما بالنا مع حكومة هدفها في النهاية هو فرنسا أو أوربا. ليس بدون مهاجرين فقط، ولكن بدون زوار أو طلبة مغاربيين أو مسلمين. هذه كارثة بكل المقاييس.
عموما، هذه الهبَّة لليمين المتطرف من تل أبيب إلى اللكسمبورغ عاصمة البرلمان الأوربي، لا يمكن إلا أن تكون مفزعة للعالم الذي بنى لحد الآن نظاما يمتح من عصر الأنوار، انطلق أساسا من فرنسا فإذا به يسير إلى نفق مظلم لا تعلو فيه إلا أعلام المجازر أو الإقصاء وبناء جدارات العزل الإنساني والاستعلاء، وإعلان الحروب الحضارية مما يهدد بعالم أكثر سوءا مما نعيشه اليوم. ولا يمكن للمغرب رسميا وشعبيا إلا أن تكون يده على قلبه، خوفا مشروعا وليس جبنا. وعيد أضحى مبارك سعيد.