لا سلام على طعام
حتى الحروب فقدت هيبتها، والبشاعة أصبحت أبشع من معناها في القاموس، والناس يتعايشون مع الجرائم ضد الإنسانية. وبقدر ما لم يسبق أن كانت هناك إمبراطورية أقوى في التاريخ مما هو موجود الآن، ولا موارد أكبر، فإنه لم يسبق أن كانت هناك أدوات دمار شامل كما هو موجود الآن، ولا مجانين يتوفرون على زر الإطلاق كما نعيش، وكل هذا اعتقدت أنه مرحلة وستمر.
«لا سلام على طعام، وأما بعد..
أتذكر عندما كنا نموت ضحكا ونحن نستحضر هذه العبارة الحربية؟ فاسمح لي أن أبدأ بها هذه الرسالة حتى أخفف على القول وأحكي لك عما جرى في غيابك الطويل فلا تخونني العبارة.
اسمح لي أن أهنئك على ما أيقظته فيّ وقد اعتقدت منذ زمان أنني صرت رماداً، أي مجرد شهادة على أن ألسنة نيران كانت مشتعلة هنا ذات شهر، أو ذات سنة أو ذات عمر.
في تلك الليلة، فوجئت برسالتك حقا على شاشة هذا الهاتف الذي يتحول شيئا فشيئا إلى أفزع أداة اخترعها الإنسان. ترددت في فتحها، حدست أنها ستكون اختباري، ستضعني مرة أخرى أمام ما أهرب منه، أمام أسئلتك النافذة كسَهم، أمام الأخبار والهواجس والتطلعات والتعقيدات والتلاطمات والخيانات والنذالات، وما تستطيع وحدك أن تجد الكلمات المناسبة لتضعها على الإحساس حتى يصير له معنى.
رفضت أن أجاريك على الأقل في هذا الليل الذي اعتدت منذ مدة طويلة أن أتخذه دثاراً أدفن فيه كل ما أشاهد وأسمع وأعيش من أهوال في النهار. تقلبت في مضجعي أتوسد أشباه الأحلام، وغفوت، ثم قفزت، وامتدت يدي إلى الهاتف فقمعتها، ثم استسلمت، وفتحت الرسالة:
«عزيزي وقرّة عيني..
لم نتواصل منذ مدة لأن لا شيء كان يستحق، أو هكذا بدا لي. العالم جُن حقّا. كنت تنعتني بالساحر الذي يقرأ التعقيدات، وها أنذا أعلن استسلامي.
حتى الحروب فقدت هيبتها، والبشاعة أصبحت أبشع من معناها في القاموس، والناس يتعايشون مع الجرائم ضد الإنسانية. وبقدر ما لم يسبق أن كانت هناك إمبراطورية أقوى في التاريخ مما هو موجود الآن، ولا موارد أكبر، فإنه لم يسبق أن كانت هناك أدوات دمار شامل كما هو موجود الآن، ولا مجانين يتوفرون على زر الإطلاق كما نعيش، وكل هذا اعتقدت أنه مرحلة وستمر.
وربما لهذا اخترت الهجرة لأكون قريبا من التحولات، ولكن يا لهول ما أعيش! أنا شاهد اليوم على هذه الحضارات وهي تبني جدارات العزل والانعزال كل يوم، واللغط كثير والسياسة تمارس براجمات الصواريخ، والكلمة العليا للفرقة والتمييز والشحن والعنصرية واستعلاء الآخر والتقوقع.
لم أعد أحس بالأمان، أنا موصوم بسحنتي ولكنتي، وأبدو في الشارع مدانا إلى أن يثبت العكس. كل حادثة مهما صغرت إلا وتنسب لنا كانتماء. لقد ضاقت بي الدنيا بما رحبت، لذلك سأكسر ما سبق أن قطعته على نفسي من وعد، وسأعود.
هذا الغرب لا محالة سيفجر الحرب الأخيرة، وفي يوم القيامة هذا، أريد أن أكون حيث دفن أجدادي. معذرة على هذا الإزعاج وإلى لقاء قريب إن شاء الله».
قرأت الرسالة وتمزقتُ لتمزقك، هل أفرح لعودة أخي الذي لم تلده أمي أم أبكي هذا العالم الذي كان على الأقل عندما تضيق الأحوال بأبناء العالم الثالث ـ كما يسموننا ـ فإنهم يجدون ملجأ في الجامعات العريقة وفي حرية هذا الغرب والأفكار المؤسسة لمجتمعاته المتقدمة والمنفتحة، وهذا الأهم.
يرعبني هذا الانغلاق في الواقع الجغرافي وفي الحدود بين البشر، في ذات الوقت الذي لم يسبق للبشرية أن عرفت انفجاراً تواصليا كالذي نعيشه، والآتي أكبر وربما أفظع. يرعبني هذا التطرف الذي انتصر في النهاية على الجميع، حتى أصبحت المعادلة هي أنك إذا لم تكن متطرفا فإنك خائن!
الشوفينية تبني المتاريس والمعرفة تراجعت للوراء وأصبح الحكم بيد الشعبويين الذين هم بالضرورة مشاريع طغاة.
أستغرب لهذه الديموقراطية التي أقسمت أنها ستصلح نفسها حتى لا تنجب هتلر آخر، ولكني أرى أننا في المنحدر الخطير الذي أصبحت فيه الديموقراطية ممسرحة لدرجة أن الفائز لن يكون إلا الممثل البارع والكاذب الكبير.
أجدني فرحاً الآن وأحن إلى عناقك ومشتاق لمؤانستك وحماقاتك. وفي ذات الوقت أراني قلقا مشوشا. أنا لا أريد المقارنة لأن المبدأ يقول ألا مقارنة مع وجود الفارق. ولكن هنا أيضا المجانين زادوا جنونا، واللغط أكبر مما هو موجود هناك.
هنا شجرة السياسة ربما فقدت آخر أوراقها، هنا التطرف الوحيد الذي ينمو عندنا هو التطرف في الفساد، فعدد السياسيين المتابعين في قضايا تبديد الأموال العمومية أكثر من عدد الأسئلة الشفاهية في البرلمان، هنا قد يكون البلد الوحيد في العالم الذي يأتي فيه رئيس الحكومة إلى مجلس النواب ليقول إن الدعم الاجتماعي الذي بدأنا في إعطائه للأسر وهو لا يتجاوز 500 درهم في الشهر (45 أورو) قد كانت له آثار جانبية، بحيث إن من أصبحوا يحصلون عليه بذخوا حتى بدأوا يرفضون العمل، وهذا خلق أزمة عمالة في بعض المناطق!
هذا البلد ضربت فيه ترددات الزلزال الجامعة المغربية بحيث تناسلت الشعب والماسترات والإجازات والحماقات، مقابل تدني المستوى وتخريج العاطلين. وكل هذا في كفة وما قام به عميد كلية هنا في كفة أثقل، بحيث إنه رفض تسليم طالبة شابة شهادة التفوق أمام الملأ والشاشات فقط لأنها تضع على كتفيها الكوفية الفلسطينية.
عزيزي، هذه ليست أحداثا معزولة. أنا نقلت لك على عجل ما أهرب منه في جوف الليل حتى لا أواصل الصداقة المرة مع الأرق. هذه عناوين لآلاف الأشياء الصغيرة التي تقع يوميّا وإذا جمعناها نقول إنها لا تليق ببلد عريق كهذا الذي يعطينا شرف الانتماء.
عزيزي، إن الحياة العامة انعكست على كل العلاقات في كل المستويات. لقد استفحل الوضع في هذه المصحة النفسية الكبرى، الناس تأكل بعضها البعض في الأموال والأعراض، والغريب أن كل مساجد المغرب لا تكفي المصلين يوم الجمعة، فيصلي أكثرهم في الشوارع، ولكن في المعاملات ستجد صحن التدين شبه فارغ. استفحل النصب والخداع والاحتيال والمكر، وأما النفاق فقد أصبح رياضة وطنية لنا فيها أبطال.
أتذكر عندما كنا قبل سنوات نخرج بكل عفوية لأي مكان ونفعل بفرحنا ما نشاء؟ اليوم عندما ستعود سترى أنك أصبحت في سجن اضطراري، فإذا رقصت فرحا قد تجد نفسك يوما في مواقع ما يسمى بالتواصل الاجتماعي، وإذا صادقت قد تجد خائنا وإذا وثقت قد تجد غادراً، وإذا فتحت قد تجد مبتزا وإذا أغلقت قد تجد راجما بالغيب.
وأكاد أجزم أن عدد الجرحى والمعطوبين في هذه الحرب القيمية هنا هو أكبر من عدد ضحايا حرب الإبادة في غزة بكثير. وإذا كان الحديث الشريف يقول: «إن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين» فيا رسول الله، كيف في هذا الوضع ألا يلدغ المؤمن ألف مرّة من نفس الجحر؟ كيف يمكن للمتشبثين بطيبوبتهم ـ وربما سذاجتهم البريئة ـ ألا يلدغوا إذا لم يبق من الأخلاق إلا العناوين ومن الإيمان إلا الشعائر؟
عزيزي وقرة عيني،
انتهى الأمر بالغرب إلى دخول مجاهل الانغلاق والتقوقع كدول، ونحن انتهى الأمر بجزء كبير منا كأفراد للانغلاق على أنفسهم وتضييق دائرتهم والبحث المضني عن الاستمتاع بوحدتهم وخلوتهم وبالقناعة والغنى عن الناس.
بهجة الحياة عزيزي اليوم، لم تعد حتى أُمنية. عليك أن تكتفي بأنك على قيد الحياة بطعناتها وخيباتها، وأن تسير بجانب الحائط. لكن وكما قال برنارد شو: «المؤلم أن تسير بجانب الحائط ابتعاداً عن المشاكل، فيسقط عليك الحائط نفسه»! هذه هي سخرية الحياة عزيزي، فلتصبح على وطن.