في حفل تمتد جذوره لأكثر من أربعة قرون، جدد الشعب المغربي ممثلا في من ينوب عنه من مسؤولين حجوا من مختلف جهات المملكة المغربية إلى القصر الملكي بتطوان، لتقديم فروض الطاعة والولاء، وهي فرصة سنوية مشتبكة بين الروابط الدينية والسياسية يحكمها نظام البيعة الإسلامي، حيث اعتبرها مراقبون سياسيون “تتويجاً لاحتفالات عيد العرش”.
وتبدو مراسيم حفل البيعة الذي يقام سنوياً بحضور كبار الشخصيات المغربية بأحد القصور الملكية كـ”لوحة فنية” متجذرة، بطلها الملك محمد السادس باعتباره أميرا للمؤمنين مرتديا “اللباس المغربي التقليدي”، الذي يمتطي صهوة حصان عربي أصيل أسود، وحوله خدام القصر الملكي.
وتبدأ فصول احتفالات الولاء من باب القصر الملكي، إذ يجد الملك محمد السادس الذي يرافقه أفراد من الأسرة الملكية، أمامه جحافل من المسؤولين الذين يعملون وفق البروتوكول المقرر، مرددين عبارات “التمجيد والولاء والطاعة”، التي تعزز دلالة الانتماء والوفاء للوطن والملك.
وعلى هذا النحو، قال رشيد لبكر، أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة شعيب الدكالي بالجديد، إنه “من المظاهر المميزة للنظام الملكي بالمغرب، اتسامه بالعديد من الشكليات الحضارية التي تمتحي من تراث عريق، يمتزج فيه الديني بالاجتماعي، ويضفي على الملكية فرادتها الخاصة من بين كل الملكيات القائمة في عالم اليوم، بل ويجعل من الطقوس المرافقة عليها، مشاهد حضارية متميزة قل نظيرها، تعبر في جزء منها عن المكونات الأصيلة التي ميزت وتميز الشخصية المغربية على مدى قرون غابرة”.
وأضاف لبكر، في تصريح لـ”الأيام 24″، أنه من المؤكد أن “لرمزيات طقوس الحكم ببلادنا، وظائف متعددة، لا أقلها حفظ المكانة السامية للجالس على العرش، وجعل احترامه من واجبات الدين وفروض الشريعة والالتزام بوحدة الجماعة، التي لا يزيغ عنها إلا هالك”.
وتابع المتحدث عينه أنه “إلى جانب ذلك، نشير إلى أن الطقوس التي تجري على ضوئها مراسيم البيعة، وبغض النظر عن بعدها السميائي الذي يكرس موقع الملك، ليس بصفته رئيس دولة فقط بل وبصفته أميرا للمؤمنين كذلك، هي نتاج التزام تعاقد رمزي مؤسس على الدين، وعرف دستوري يؤسس لشرعية الحكم، إذ ليس خفيا، بأن النظام القائم في المغرب يؤسس شرعيته دائما على الدين (الإسلامي طبعا) قبل أي شيء آخر، فالملك يختتم خطاباته بنصوص دينية ويذبح الأضاحي ويحضر صلات العيدين ويحيي ليلة القدر وغيره مما يصعب حصره في هذه الورقة”.
وأشار المحلل السياسي إلى أن “نص وثيقة البيعة تصدر ب”الحمد لله الذي نظم بالخلافة شمل الدين والدنيا وجعلها الدرجة العليا”، وبالتالي من الصعب تصور ملكية المغرب بدون بيعة، بكل ما تحمله من ترسانة رمزية، يؤسس عليها الجالس على العرش سمو مكانته ويفرض من خلالها هيبته التي هي أحد المكونات الأساسية لقوة النظام والدولة”.
“هذا، دون أن ننسى البعد الجمالي والحضاري المميز لطقوس هذه البيعة، فلا ننسى أن طقوس هذه الأخيرة، تجسد قيمة جمالية رائعة ومميزة للمغرب، باعتباره بلد عريق، بني مجده على امتداد قرون من التراكمات الحضارية وليس بلد وليد اللحظة، وهذا ما يفسر مثلا، ارتكاز العديد من التشكيليين المغاربة والأجانب في مادة أبداعهم على تيمة البيعة”، يضيف المتحدث.
وأوضح أيضا أن “البيعة على هذا الأساس، وبغض النظر عن وظيفتها الدينية والدستورية، تقدم لوحة تشكيلية ذات إيحاءات تراثية موغلة في التاريخ (بالمفهوم الحضاري طبعا)، بدءا باللباس التقليدي، ثم بنوعية الألوان وختاما بطقوس الركوب على الفرس ورفع المظلة”.
وحسب الأستاذ الجامعي فإن نقاشنا لقضية البيعة -كما سبقت الإشارة- لا ينصب في جوهره، على أساس الحكم ولا حتى على شرعيته المتينة، إذ الحكم بالمغرب يستقي قوته القانونية من صلب الوثيقة الدستورية، أي من القانون الأسمى المؤطر لعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومن العقد الديني المقدس بين الراعي والرعية.
وأردف الأكاديمي أن “ملك المغرب وإن كان رئيس دولة عصرية يحكمها بالدستور كما أوضحنا، فهو في الوقت ذاته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والبيعة بهذا المعنى، تجسيد مادي لهذه العلاقة العمودية، وحتى لو اعتبرناها مجرد عرف دستوري خارج نصوص الدستور ذاته، فالواقع يؤكد أن لا أحد يمكنه تجاوزها، أو يمتلك الجرأة على القول بنفيها، إذ هي تعبير عن المشترك، ورمز لهوية البلاد”.
وزاد: “لعل المراسيم التي تجري وفقها بيعة السلطان، تأتي في قمة هذه المكونات التي جرى بشأنها نقاش طويل، تجدد بشكل أقوى في عهد الملك محمد السادس، عندما حاول في بداية حكمه، تكسير العديد من الأنماط البروتوكولية التي لازمت السلطان / الملك المغربي في حله وترحاله، وبالقدر الذي لقيت مبادراته استحسانا من طرف البعض، فإن البعض الآخر، حاول الركوب على دينامية التجديد هذه لرفع سقف المطالب حيال طقس البيعة، بل إلى حد المطالبة بإلغاءه”.
وخلص لبكر حديثه قائلا: “اعتقد أن من قال بذلك، جانب الصواب كثيرا، بالنظر إلى ما سقناه من مبررات، أضف إليه إنكاره لشيء أساسي، وهي أن العديد من الملكيات الرائدة في الديمقراطية ، لم تجد أي مشكل في تعايش حداثتها مع تقاليدها، ولنا في الملكية البريطانية خير مثال على ذلك”.