كما هو معلوم، في عالم السياسة لا شيء متروك أو يحدث على سبيل الصدفة؛ بل كل ما يحصل مخطط له ومرتب لخلفياته وأبعاده وتبعاته كذلك. من هذا المنطلق يظهر جليا أن اللقاءات المتواترة بين مسؤولين مغاربة رفيعي المستوى ونظرائهم التونسيين، تؤشر على أن عودة العلاقات بين الرباط وتونس تطبخ على نار هادئة.
وكان لافتا للنظر جنوح لغة البيان الصادر عن الخارجية التونسية، الثلاثاء، في أعقاب لقاء رسمي جمع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة مع نظيره التونسي محمد علي النفطي، على هامش منتدى التعاون الصيني الإفريقي في العاصمة بكين، إلى طي صفحة الخلاف الذي تفجر بين البلدين الجارين قبل سنتين، إثر استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد زعيم جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي بمناسبة انعقاد قمة “تيكاد”، وهي الخطوة التي احتج عليها المغرب باستدعاء سفيره لدى تونس حسن طارق في اليوم نفسه، للتشاور، معتبرا أن ما حدث “عمل خطير وغير مسبوق”، قبل أن تقدم تونس على نفس الخطوة في اليوم الموالي.
وتناول لقاء النفطي وبوريطة، وفق ما نقله بيان الخارجية التونسية، “علاقات الأخوة والتعاون القائمة بين البلدين وسبل تعزيزها”، وهو نفس المسعى المعبر عنه في مكالمة هاتفية جمعت الوزيرين قبل أيام أعربا خلالها بعد أن أكدا خلالها على “عمق الروابط الأخوية”، عن “الحرص المشترك على دعم أواصر التعاون بين البلدين الشقيقين في مختلف المجالات”.
قبل ذلك، جمع لقاء مماثل، هذه المرة بين رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش بوزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار، شهر غشت الفائت، على هامش الذكرى الثمانين ليوم النصر بفرنسا، حيث ناقشا “التعاون الاقتصادي والعلاقات السياسية”، مما يعني أن الجارين المغاربيين وضعا أول خطوة في مسار تذويب الجليد بينهما، في أفق عودة العلاقات الدبلوماسية إلى سابق عهدها، مع ما سيرافق ذلك من تفعيل للجنة المشتركة المغربية التونسية، المجمدة منذ عام 2017.
ويسود اعتقاد راسخ داخل أوساط نخبة “بلاد الياسمين” بأن ما أقدم عليه قيس سعيد على هامش القمة الثامنة لمنتدى التعاون الياباني الإفريقي “تيكاد” 2022 “خطأ استراتيجي” شكَّـل مساسا بالوحدة الترابية للمملكة المغربية وانقلابا على الموقف الرسمي التونسي الذي لطالما كان ينهج الحياد بخصوص نزاع الصحراء.
البشير الجويني، المحلل السياسي التونسي والباحث في العلاقات الدولية، شدد على أنه هنالك بالفعل “رغبة سياسية تحذو الطرفين لإعادة العلاقات الدبلوماسية المغربية التونسية إلى سالف إشعاعها”، مبرزا في حديث مع “الأيام 24” أن الدينامية المسجلة حاليا “قد تدفع من أجل إنهاء الأزمة بين البلدين الشقيقين”.
وتوقف الجويني عند الفترة الذهبية للعلاقات بين الرباط وتونس، مشيرا إلى أن الروابط التاريخية أكثر من أن تحصى، بداية بزيارة سيدي إبراهيم الرياحي إلى المغرب مطلع القرن الـ19، مرورا بالموقف التاريخي للملك الراحل الحسن الثاني من “أحداث فقصة” عام 1980، نهاية بزيارة العاهل المغربي محمد السادس إلى تونس عام 2014 في ظرفية كانت صعبة للغاية.
ولفت الباحث في العلاقات الدولية إلى أن “الروابط التي تجمع بين البلدين الشقيقين هي ثابتة وتاريخية واستراتيجية، رغم بعض الأحداث التي أرخت بظلالها عليها”، مستدركا: “لكن ما نشاهده مؤخرا في عدد من المجالات، التعليم العالي والخارجية يؤكد أن هناك رغبة لإعادة البريق والألق إلى العلاقات بينهما”.
وذكر الجويني أن طي صفحة الخلاف بين الجارين سيخدم ليس فقط العلاقات الأخوية والمصالح المشتركة للبلدين، بل سيشكل رافعة حقيقية للعمل المغاربي المشترك عبر التكتل لمواجهة التحديات الإقليمية والتي قد تتطور لتأخذ بعدا إقليميا ثلاثيا داخل اتحاد المغرب العربي، مشيرا إلى أن “العلاقات بين الشعبين متمازجة في أبعادها الثقافية والاقتصادية ويتعين الدفع قدما من أجل المستقبل”.