اكتئاب ثقافي
والذي آلمني شخصيا أكثر في هذا الجو العام الموبوء، أن مسلسل فقدِ الخلان تسارع، ففي سنة ونيف فقدنا أعلاما من علامات الطريق: عبد الله الستوكي، نور الدين الصايل، خليل الهاشمي الإدريسي، مصطفى العلوي، وحسن العلوي عكرمة، فهد يعته، خالد الجامعي، عبد الله العمراني، جمال براوي، عمر سليم، إبراهيم سلكي، وبلعيد بويميد وغيرهم، فعلى من نتكئ إذن؟
صحيح الدوام لله، ولكن قطار المغادرة كان سريعا، والذين مازالوا على قيد الحياة – والقيد بالمفهومين ـ متوارون. هل نحاسبهم على ما يمكن أن يعتبر جبنا؟ أبداً! هل يعدَم بلد النزهاء والأصفياء؟ أبداً، فلماذا لا يرى المغاربة في الغالب إلا أسماء وصور القطاطعية – حسب تعبير الأموي رحمه الله – وأخبارهم وملاييرهم وشبكاتهم والأسلاك العالية الضغط التي يشبكونها فيزيدون من حجم ألسنة النيران التي تلتهم قوت الشعب.
عدنا والعود أحمد، ولكن لأصارحكم القول، إنها عودة بمرارة، فلم يعد هناك طعم للكتابة في هذا الجو الذي يزداد سوريالية وغرابة وصلافة وصدامات وصراخا وتناطحا. العجيب أن الكل بدون استثناء له نفس التحليل ويقول بنفس الانطباع، ولكن الأعجب هو أنه إذا كان هذا الكل يعترف بأننا وصلنا الحضيض فمن يفعل هذا؟ هل هناك أشباح معنا تحمل رقم بطاقة هوية؟
عموما اقتنعت في خلوة متواضعة أن التذمر حق من حقوق الإنسان، ولكنه حق مُر كالعلقم. لماذا يقع كل هذا؟ والله إننا نستحق الأحسن في كل المجالات، كل شيء مهيأ لنكون أفضل، ولكننا نبيت على قرع السيوف، ونصبح على تضميد الجراح.
الأغرب أيضا أن صوت العقل يكاد يختفي، الكلام في كل الأرجاء مطلوق على عواهنه، وقد أصبحت هناك قبائل متناحرة، أقسم بالله العظيم لم أعرف كيف تشكلت ولماذا تستمر، وأرى أن لا أحد سيسلم. ارتطامات في الصباح واصطدامات في المساء وما بينهما معركة لا هي تشبه تلك التي عشناها قبل عقود من أجل الديموقراطية، ولا هي تشبه تلك التي خاضها كبار من أجل برنامج أو فكرة أو تصور في سبيل الوطن.
ومن المضحكات المبكيات أن الكثيرين ممن يعرفون أنني أقترف هذه المهنة – ولم يبق الكثير لنغادر – وهي سنة الحياة، يأتون ليمطروني بمئات الأسئلة حول ما يجري وملخصها: «ما بقينا فاهمين والو… اشرح لينا!» آه لو كنت فهمت أنا أولا! العبث لا يشرح، إنه العبث.
فرق شاسع بين ما يقع من تحولات في المغرب خصوصا على مستوى البنية التحتية والعلاقات الخارجية، وبين ما يجري من لغط هنا، ومن وقائع يطلب الإنسان الله أمامها ألا يطير له «الفريخ». يقولون إن العزيزة موريتانيا هي بلد المليون شاعر، وأكاد أقول اليوم إن المغرب قد يصبح هو بلد الثلاثين مليون محلل أو محرم، وأما سلة نظرية المؤامرة فإنها ربما هنا قد ترشح لموسوعة غينيس كأكبر السلال في العالم في هذا التخصص الرياضي الأولمبي! اللهم إنا لا نسألك رد القدر ولكن نسألك اللطف فيه.
والذي آلمني شخصيا أكثر في هذا الجو العام الموبوء، أن مسلسل فقدِ الخلان تسارع، ففي سنة ونيف فقدنا أعلاما من علامات الطريق: عبد الله الستوكي، نور الدين الصايل، خليل الهاشمي الإدريسي، مصطفى العلوي، وحسن العلوي عكرمة، فهد يعته، خالد الجامعي، عبد الله العمراني، جمال براوي، عمر سليم، إبراهيم سلكي، وبلعيد بويميد وغيرهم، فعلى من نتكئ إذن؟
صحيح الدوام لله، ولكن قطار المغادرة كان سريعا، والذين مازالوا على قيد الحياة – والقيد بالمفهومين ـ متوارون. هل نحاسبهم على ما يمكن أن يعتبر جبنا؟ أبداً! هل يعدَم بلد النزهاء والأصفياء؟ أبداً، فلماذا لا يرى المغاربة في الغالب إلا أسماء وصور القطاطعية – حسب تعبير الأموي رحمه الله – وأخبارهم وملاييرهم وشبكاتهم والأسلاك العالية الضغط التي يشبكونها فيزيدون من حجم ألسنة النيران التي تلتهم قوت الشعب.
نحن لا نعرف الدول لأننا زرناها، نحن نعرف ما يجري في الدول من خلال إعلامها. نعرف ما تفعله أمريكا ـ ظاهريا – وما يجري في الشرق الأوسط، ونعرف فرنسا ومشاكساتها وتعديلها الحكومي، ونعرف إسبانيا. نحن نتابع هذا في الإعلام ونكون انطباعاً عن البلد، فبالله عليكم، هل يمكن لمن يتابع ما يجري من هرج ومرج في وسائل التواصل غير الاجتماعي أو إعلامنا أن يعرف حقيقة المغرب؟ حقيقتنا مذبوحة بالتناحر باسم الدفاع عن أشياء اختلطت علي وعلى كل من ما يزال يحافظ على بعض من توازنه لحد الآن.
كنت سأكتفي بهذا التنفيس الذي أعتذر للقراء عنه، لأنه قد يكون شخصيا، ولكن لا يمكن أن أمر هنا دون أن أعبر عن ذهولي وصدمتي لحجم البشاعة الذي وصلته الدولة الصهيونية. منذ أكتوبر وهي ترتكب في المجازر، واليوم، ارتقت بفضل الرعاية الأمريكية الرشيدة إلى حروب المستقبل، فاغتالت قادة في دول وخططت سنوات لتزرع متفجرات في حامل رسائل اشتراه اللبنانيون ليتواصلوا به، ثم فجرتهم، بعدما حولتهم إلى انتحاريين رغم أنوفهم، وها هي ماتزال تلقى الدعم من الغرب كله إلا من رحم ربك، بدعوى أنها تحارب الإرهاب والكل يتناسي أن القضية الأصل هي باختصار مقاومة ضد الاحتلال المغتصب لأرض فلسطين. وحتى اتفاقيات أوسلو التي أعطت السلطة الفلسطينية حكما صوريا على جزء ميكروسكوبي من فلسطين ها هي رَمتها. وكم كان قاسيا المشهد، بداية الأسبوع، عندما دخل جنود مدججون بالأسلحة إلى مكتب الجزيرة برام الله، وهي تابعة للسلطة الفلسطينية، ليقدموا لرئيسه الزميل وليد العمري أمراً عسكرياً مكتوبا بإخلاء المكتب وإغلاقه، مع تمزيق صورة شيرين أبو عاقلة التي اغتالها الإسرائيليون قبل شهور ببرودة دم.
ليس المهم هو متى سيرد حزب الله وكيف، وهل ستدخل إيران على الخط، وهل سيشتعل الشرق الأوسط. المهم أن ما سجل اليوم في التاريخ يعتبر واحدا من أبرز عناوين الجرائم ضد الإنسانية بمساندة غربية وصمت عربي إسلامي، لأن منطق القوة أقوى دائما من قوة المنطق.
ودعوني أيضا أعرّج على ما عرفته منطقة الشمال من محاولة هروب جماعي لشباب مغربي يافع بالفنيدق، وحتى هذه تواجهت فيها الكتائب الإلكترونية. المهم في القضية أن الحكومة في النهاية سقطت بملتمس رقابة شعبي، حكومة دائخة مدوخة، لم يبق هناك قطاع إلا وأخرجته عن طوعه: الأساتذة، الأطباء، الممرضون، المحامون، الصحافيون، الصيادلة، وهيئات مهنية ونقابية، ولم يسبق أن دبجت مشاريع قوانين، ورقعت في تاريخ المغرب كما فعلت هذه الحكومة، ورغم ذلك خرجت شبيبة حزب رئيس الحمامة ترقص على نغمات طوطو وهم يفتخرون لأنها الحداثة في مواجهة الظلامية!
ودعوني أيضا أترحم على ضحايا طاطا، وهم ليسوا ضحايا الفيضانات ولكن ضحايا الفساد، وأذكر هنا السي خليل الهاشمي رحمه الله، وكان المستشار الملكي مزيان بلفقيه قد أدمج الكثير من خريجي مدارس «ponts et chaussées» في دواليب الإدارات والوزارات، وهؤلاء هم خريجو مدرسة فرنسية عريقة تحمل ذات الاسم، وكانت قد حلت تقريبا نفس كارثة طاطا آنذاك في الشمال، فقال خليل: «البلد الذي يحكم فيه مهندسو القناطر هو البلد الذي ينهار فيه أكبر عدد من القناطر»!
ارحموا الناس وكفى من جشعكم، قضاياكم اليوم أمام الرأي العام تخجل، أحزاب الائتلاف الحكومي عندها ألف قضية فساد، مئات الشلاهبية ممن كان يفترض أن يجدوا حلولا للفقراء هم الآن في السجن أو ينتظرون والفئة الناجية ما تزال تنهب. هذا لا يليق ببلد عريق مجيد كمغرب السؤدد، فلذلك تعتبر مجرد متابعة هذه المصائب فجيعة، فلا يستغربَنّ المرء إذا كان قد لبس جلباب الاكتئاب الثقافي بالمفهوم العام. وبما أن الإنسان لا يمكن أن يكون له جلباب واحد، فإن جلباب الأمل معلق على مشيئة الله وتدبير البشر. وأختم بما قاله سلطان العارفين جلال الدين الرومي: السلام على كل الضاحكين وفي قلوبهم سنين بكاء، وسلاما على المتفائلين وفي محاجر عيونهم دمعات مخبوءة. فاللهم عجل بالفرج.