في سياق الدعوة التي وجهها الملك محمد السادس إلى الحكومة بغرض إحداث تحول جديد في مجال تدبير شؤون الجالية المغربية بالخارج، والنهوض بأوضاعها، سجل مرصد العمل الحكومي رزمة من التحديات والعراقيل التي تقف حائلا أمام مساهمة مغاربة العالم، بشكل فعال، في تحقيق التنمية الشاملة بجميع أبعادها، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والرياضية.
بداية بضعف المساهمة الاستثمارية، مرورا بقلة التمثيلية السياسية وإشكاليات الاستقبال، ثم وصولا عند البيروقراطية الإدارية والفساد؛ تتوزع المتاعب التي تواجه هذه الفئة من المواطنين المغاربة التي يصل تعدادها إلى 5.1 مليون وتتميز بتركيبة ديمغرافية شابة، إذ يشكل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و39 سنة حوالي 60 بالمائة، مما يحرم المغرب، في المحصلة، من الاستفادة الكاملة من الإمكانات الهائلة التي تمتلكها.
ضعف المساهمة الاستثمارية
عند الحديث عن مغاربة العالم، أول ما يتبادر إلى الذهن تحويلاتهم المالية الضخمة التي تعد أحد الدعائم الأساسية للاقتصاد الوطني، بالنظر إلى الدور الحيوي الذي تضطلع به في تعزيز التوازن المالي للمملكة وتوفير مصدر رئيسي للعملة الصعبة.
وعلى مدار السنوات الأخيرة الفائتة، شهدت هذه التحويلات تطورا ملحوظا، إذ ارتفعت من 60 مليار درهم في عام 2019 إلى 115.3 مليار درهم في عام 2023، مع توقعات ببلوغها 120 مليار درهم في عام 2024، وهو النمو الذي يعكس قوة الروابط التي تجمع مغاربة الخارج بوطنهم، ويؤكد التزامهم بالمساهمة في استقرار الاقتصاد الوطني، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية التي أثرت على تدفق التحويلات في العديد من البلدان الأخرى.
وتساهم هذه التحويلات بما يزيد عن 7 في المائة من الناتج الداخلي الخام، مما يجعلها عنصرا محوريا في تعزيز القدرة المالية للمملكة ودعم احتياطاتها من العملة الأجنبية، واستقرار الدرهم المغربي، ودعم التوازنات الماكرو اقتصادية، وخفض عجز الميزان التجاري، لكن رغم الارتفاع الملحوظ في قيمة تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، إلا أن توزيعها واستغلالها يعاني، كما سجل ذلك مرصد العمل الحكومي في تقريره، من اختلالات كبيرة عل مستوى خلق القيمة المضافة وتعزيز الاستثمار.
وحسب المعطيات الرسمية التي استند عليها تقرير مرصد العمل الحكومي، لا تتجاوز نسبة الأموال المخصصة للاستثمار 10% من مجموع هذه التحويلات، بينما يخصص 60% لدعم الأسر، و30% على شكل ادخار.
كما أنه بالمقارنة مع دول إفريقية تشهد زخما مشابها في الهجرة مثل نيجيريا وكينيا، تبدو النسبة المخصصة للاستثمار في المغرب أقل بكثير، ففي نيجيريا توجه 45% من تحويلات مواطنيها المقيمين بالخارج للاستثمار، بينما تصل النسبة إلى 35% في كينيا، حيث يظهر هذا التفاوت حاجة المغرب إلى تطوير آليات مبتكرة لتحفيز استثمار التحويلات المالية في قطاعات منتجة تسهم في خلق فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام.
ويفسر معدو الدراسة التحليلية بعنوان “الجالية المغربية بالخارج ركيزة وطنية لتعزيز التنمية المستدامة ورابط حضاري بين المغرب والعالم”، أسباب ضعف استثمارات مغاربة الخارج، بغياب رؤية استثمارية شاملة وموجهة تستهدف إدماجهم بفعالية في النسيج الاستثماري الوطني، مؤكدين أنه رغم الإمكانات الهائلة التي يمثلها مغاربة العالم، إلا أن هناك نقصا واضحا في السياسات الموجهة خصيصا لاستقطاب استثماراتهم بشكل منظم ومدروس.
وفي رصدهم لمواطن القصور، توقف معدو التقرير عند غياب خطة واضحة تحدد القطاعات الاقتصادية ذات الأولوية التي يمكن أن تشكل محركا للنمو، فضلا عن غياب خريطة استثمارية تستعرض الفرص الواعدة في المناطق التي تعاني من التهميش أو التي تحتاج إلى دعم أكبر لتحقيق التنمية المستدامة.
ويؤدي هذا النقص، وفقا للتقرير، إلى تشتت جهود واستثمارات الجالية، حيث يجد المغاربة المقيمون في الخارج أنفسهم أمام خيارات غير مهيكلة وغير مدروسة، مما يجعل استثماراتهم غالبا عشوائية أو مقتصرة على قطاعات تقليدية كالخدمات والعقار، بدلا من استهداف قطاعات ذات قيمة مضافة عالية مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، أو الصناعة التحويلية كما أن هذا الغياب لرؤية استراتيجية يضعف فرص توجيه هذه الطاقات نحو المشاريع التي تساهم في خلق فرص عمل مستدامة وتطوير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب.
وبحسب مرصد العمل الحكومي، فإنه ورغم الأهمية الكبيرة التي تحظى بها آليات التمويل في تحفيز استثمارات مغاربة العالم ودعمها، إلا أن الأدوات المتوفرة حاليًا تبدو محدودة وغير قادرة على الاستجابة لتطلعات هذه الفئة المهمة، على غرار صندوق MDM Invest، الذي أنشئ خصيصا لدعم مشاريع مغاربة العالم، ولم يتمكن من تحقيق تأثير ملموس على أرض الواقع، إذ أنه منذ إطلاقه في عام 2002 وحتى عام 2022، لم يتجاوز عدد المشاريع التي دعمها 48 مشروعا فقط، وهو رقم يعكس بوضوح محدودية نطاق تأثيره مقارنة بالإمكانات الاستثمارية الهائلة للجالية المغربية.
إلى جانب ذلك، يعاني المغرب من غياب صناديق تمويل أخرى مخصصة لدعم استثمارات الجالية، مما يبرز افتقار السياسات العمومية إلى رؤية متكاملة لتعبئة الإمكانات الاستثمارية الكبيرة التي تملكها الجالية، حيث يجعل هذا النقص الخيارات التمويلية محدودة للغاية، علما أن أغلب المستثمرين من مغاربة العالم يعتمدون على إمكانياتهم الذاتية أو على قروض بنكية مكلفة وغير موجهة خصيصا لدعم مشاريعهم.
كما تعاني المشاريع الاستثمارية التي تنطلق بمبادرة من مغاربة العالم من ضعف مواكبة الأبناك الوطنية، سواء من حيث تقديم التسهيلات المالية أو الدعم التقني اللازم، علاوة على أن الإجراءات البنكية غالبا ما تكون معقدة وبطيئة، وهو ما يزيد من صعوبة تنفيذ الماشريع، خاصة بالنسبة للمستثمرين المقيمين بالخارج الذينن لا يستطيعون متابعة الإجراءات بشكل مباشر، إلى جانب نقص الحوافز الضريبية والبيئة المحفزة.
بعد التشخيص المفصل والدقيق الذي قام به، أوصى مرصد العمل الحكومي بضرورة العمل على اعتماد خطة وطنية واضحة لإدماج مغاربة العالم في النسيج الاستثماري الوطني، من خلال تحديد القطاعات ذات الأولوية مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، الصناعة التحويلية، والفلاحة، وتوفير منصة رقمية شاملة تضم فرصا استثمارية محدثة ومهيكلة حسب المناطق والقطاعات الاقتصادية.
كما أوصى بتقديم معطيات دقيقة حول الجدوى الاقتصادية، مع تطوير آليات تمويل مبتكرة، إنشاء صناديق تمويلية جديدة موجهة لمشاريع الجالية، تقدم قروضا ميسرة وضمانات تحفيزية للمستثمرين، مع إعادة هيكلة صندوق MAD invest ليكون أكثر فعالية وانتشارا، إلى جانب تفعيل منصات إلكترونية موحدة تمكن مغاربة العالم من إتمام الإجراءات الإدارية للاستثمار عن بعد، ثم دعم خدمات الإرشاد والمتابعة المباشرة، وفتح مكاتب تمثيلية استثمارية في الدول التي تعرف كثافة عالية للجالية المغربية لتقديم الإرشاد والمساعدة المباشرة في الاستثمار بالمغرب.