الحرية بعد عقود من القمع
الحسين افقير
أعلن السوريون يومَ الثامن من ديسمبر/كانون الأول من كل عام عيدًا وطنيًّا لسوريا، لأنه يوم انتصار الشهداء والضحايا، ويوم انتصار المعتقلين والمهجَّرين والمظلومين، ويوم انتصار الحق والعدالة على الإجرام والظلم.
لقد عمَّت الفرحةُ كلَّ السوريين الذين عانوا من القمع والظلم والاستبداد خلال عهد عائلة الأسد، سواء في فترة حكم الأب حافظ، أو الابن بشار الذي هربَ إلى منفاه بموسكو.
هناك مَن صرخ متسائلًا: “أنحن في حلم؟ هل ما نراه على شاشات الفضائيات حقيقي؟ هل هروب بشار حقيقة؟”. هذه التساؤلات كانت في الماضي ضربًا من الخيال، لكنها تحققت في الثامن من ديسمبر 2024.
لقد عانى السوريون من مصطلحات رُسِّخت في عقولهم كأنها أبدية، مثل: “القائد الخالد”، و”حافظ العهد”، و”المعلم”، و”الأستاذ”، حتى إن البعض تداولوا أقواله وكأنها نصوصٌ مقدسة، يتوجب التطهر قبل النطق بها، أو أن تكون “تقي القلب” حين تُرددها، وإلا فمصيرك زيارة أحد الفروع الأمنية بتهمة تحريف كلام “القائد الخالد”.
لقد تحمل السوريون هذه العائلة المتغطرسة بصبرٍ منتظرين الفرج من الله، إلى أن أتتهم الفرصة بعد تحرير سوريا من استبداد وغطرسة عائلة الأسد. وآن الأوان لهم أن يعبِّروا عن فرحتهم، وأن يرقصوا بحرية، ويُقيموا الأفراح، ويلعنوا تلك الطغمة التي جثمت لعقودٍ على صدورهم، قبل أن يتخلصوا منها إلى الأبد.
ما يؤلم السوريين هو إضاعتهم عقودًا من الزمن تحت القبضة الحديدية لعهد الأسد، فأضاعوا حياتهم بين الخوف والفساد.
واستحضارًا لمقولة لينين الشهيرة: “المثقفون هم أقدر الناس على الخيانة؛ لأنهم أقدر الناس على تبريرها”. فمن خان رفيقه فقد خان القضية. أما الثائر المزيف فهو مَن يهتم بإسقاط ظالمه حتى يزول ظلمه، ثم لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم مرةً أخرى، وهكذا يدور الظلم في حلقةٍ مفرغة.
وفي السياسة، لا فرقَ بين خيانةٍ ناتجةٍ عن غباءٍ أو خيانةٍ مُتعمَّدةٍ ومحسوبة. أستحضرُ مقولة لينين هذه لأسلط الضوء على دور بعض المثقفين السوريين في خيانة الثورة والقضية السورية، سواءٌ داخل البلاد أو خارجها. فمن بين القصص الصادمة التي استمعت إليها على قناة سوريانا ما حدث مع كاتبةٍ صرَّحت علنًا بأنها رأت حافظ الأسد في منامها يقول لها: “اكتبي!”، وقالت هذا الكلام أمام وفدٍ من الكتاب الأردنيين خلال زيارتهم للاذقية.
كما كتبت شاعرةٌ قصيدةَ تمجيدٍ باسم الأسد، بينما اقتصرت محاضرات اتحاد الكتاب العرب على عناوين مثل: “كيف نقول لا لأمريكا” و”الغزو والتطبيع الثقافي”.
أما كل من تجرأ على كتابة معاناة الشعب السوري، فاتهمه الموالون بالخيانة والعمالة. لكنَّ الصمت الأكثر إيلامًا هو أن ترى نخبةَ المجتمع تتبارى في النفاق والتزلُّف لـ”القائد الخالد”، خوفًا من بطش أذرعه الأمنية التي لا ترحم.
وتجند مثقفون مدللون للحديث عن عبقرية القائد المُفدى وتقديره للمثقفين. ومن بين أقواله المضحكة والمبكية: “لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير”. لكن نسي القائد الخالد أن يذكر لنا رقابة الأجهزة الأمنية وسجلاتها عن كل مثقف.
كانت أقوال حافظ الأسد مقدسة، والويل لك إن لم تكن على دراية بأقواله وتحفظها عن ظهر قلب، فقد يتم امتحانك فيها. وله قول عبقري: “إنني أرى في الرياضة حياة”. ومن بين أقواله عن الوطن: “الوطن غال، والوطن عزيز، والوطن شامخ، والوطن صامد، لأن الوطن هو ذاتنا، فلندرك هذه الحقيقة. ولنحب وطننا بأقصى ما نستطيع من حب، وليكن وطننا هو المعشوق الأول الذي لا يساويه ولا يدانيه معشوق آخر، فلا حياة انسانية بدون وطن، ولا وجود إنسانياً بدون وطن”.
وله قول عن المعلم: “المعلمون بناة حقيقيون، يبنون الإنسان، والإنسان هو غاية الحياة ومنطلقها”. لكن المعلم والإنسان عند حافظ مجرد حشرة يمكن سحقها متى تعارضت مع أفكاره، أو خرجت عن صف المتملقين والمتزلفين.
أكثر ما يستفز السوريين هو صور الأب ثم الابن في كل الأماكن. تجدها معلقة في المطارات، وتحتها عبارات مثل: “أمة قائدها الأسد لا تركع”، وهلم جرا من الأوصاف والعبارات التي تمجد الأسد. كل صور الأب والابن منتشرة أينما وليت وجهك في سوريا، من المدارس إلى الجامعات إلى المشافي، وحتى في القبور تجدها، وهي تحدق بالأموات، كأن حافظ وبشار هما ملكا الموت يتبعان السوريين إلى مثواهم الأخير. الحمد لله أن القبر يغلق بغطاء إسمنتي، حين ينام الأموات نومتهم الأخيرة.
لقد عانى السوريون ظروفًا مأساوية خلال حكم الأسد الأب والابن، حيث تحولت البلاد إلى سجن كبير. كان الشباب الجامعيون الذين يحملون آمال الحرية والعدالة ضحايا لهذه الأنظمة القمعية. امتلأت السجون بسجناء الرأي، وبعضهم حُكم عليهم بفترات سجن طويلة تصل إلى 20 سنة، بينما تعرض الكثير منهم للإعدام. كان على أسر المعتقلين دفع رشاوى ضخمة للضباط الفاسدين للحصول على حق زيارة أحبائهم، مما يعكس عمق الفساد والظلم.
الخوف، في هذا السياق، يصبح عدو الحياة الحقيقي. فبينما يُعتبر الموت الفسيولوجي مصيرًا حتميًا لكل كائن حي، فإن الخوف من القمع والاعتقال والموت في السجون يعكس انعدام الأمل ويزيد من معاناة الناس. إن هذه التجربة المروعة تترك آثارًا عميقة على المجتمع السوري، وتؤكد على ضرورة البحث عن العدالة والحرية.
المجد لسوريا، والمجد للحرية والعدالة! إن تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الظلم والفاسدين هو مطلب أساسي لكل من يسعى لبناء مستقبل أفضل. الأمل في غدٍ مشرق لا يزال حيًا في قلوب السوريين، وستبقى الأصوات المطالبة بالحرية والكرامة مرتفعة.
نأمل أن تتحقق هذه الآمال وأن يُعاد بناء سوريا على أسس من العدالة والحرية.