نزار بركة والانتخابات.. مخاوف في الوقت الضائع!

المثير هو أن نزار بركة، الذي يبدي هذا القلق المندوب من العزوف الانتخابي، هو نفسه جزء من حكومة لم تقدم حتى الآن أي إجراءات ملموسة لاستعادة ثقة المغاربة في المؤسسات!

عبد الإله حمدوشي [email protected]

 

يبدو أن نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، قد تأخر كثيرا في إدراك خطر العزوف الانتخابي، أو ربما كان يدركه منذ زمن، لكنه لم يمتلك الشجاعة ليقول الحقيقة كاملة. ففي ظهوره الأخير على القناة الأولى، بدا الرجل متوجسا من تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة، لكنه لم يطرح السؤال الأهم: لماذا تراجعت ثقة المغاربة في العملية السياسية؟

 

من الواضح أن الحقيقة التي يتهرب منها السياسيون، بمن فيهم بركة، هي أن العزوف الانتخابي ليس مجرد حادث عابر أو ظرف طارئ، بل هو نتيجة طبيعية لعقود من الوعود المكسورة والممارسات التي حولت الانتخابات إلى مجرد إجراء شكلي يتغير فيه الفاعلون بينما تظل اللعبة هي نفسها.

 

 

المثير هو أن نزار بركة، الذي يبدي هذا القلق المندوب من العزوف الانتخابي، هو نفسه جزء من حكومة لم تقدم حتى الآن أي إجراءات ملموسة لاستعادة ثقة المغاربة في المؤسسات. فكيف له أن يشتكي من ضعف المشاركة، وهو عضو في حكومة يُفترض أن تقدم حلولا تجعل المواطن أكثر رغبة في الانخراط في العملية السياسية؟ وهل نحن أمام ازدواجية في الخطاب، أم أن بركة يحاول تهيئة الأجواء لتبرير أي نكسة انتخابية قادمة؟

 

ليس وحده العزوف ما يخيف الرجل، بل انتقد أيضا ظاهرة “التسخين الانتخابي المبكر” لبعض الأحزاب، والتي قال إنها تضر بمصداقية هذه الأخيرة لدى المواطنين، ربما نسي السيد نزار أو تناسى أن حزبه كان من أوائل الأحزاب التي دخلت في أجواء الحملات الانتخابية قبل الأوان، بل ورفع شعارا يحمل دلالة انتخابية واضحة: “2025 سنة التطوع”. فهل كان ذلك تطوعا خالصا لوجه الوطن، أم مجرد استثمار سياسي لاستمالة الناخبين تحت غطاء العمل الاجتماعي؟

 

ليسمح لنا السيد بركة أن نعيد التذكير بأن الأزمة ليست فقط في انخفاض نسبة المشاركة، بل في أن جزءا كبيرا من المغاربة لم يعودوا يؤمنون بجدوى الانتخابات أصلا. فالوجوه نفسها تتكرر كل خمس سنوات، والبرامج الانتخابية لم تعد سوى نسخ متشابهة من وعود لا تتحقق، فيما تستمر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بلا حلول. فالتضخم الذي ينهك القدرة الشرائية للمغاربة ليس مشكلة طارئة، بل هو نتيجة مباشرة لفشل السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، بما فيها الحكومة التي يشارك فيها حزب الاستقلال. كما أن الفساد الذي يتحدث عنه السياسيون لم يعد مجرد ملفات متفرقة، بل صار جزءا من بنية الاقتصاد والسياسة في البلد، إلى درجة أن المواطن البسيط بات مقتنعا بأن “اللعبة صارت مغلقة” ولا مجال لإصلاحها عبر صناديق اقتراع لا ولن تفرز بالضرورة ما يختاره الناس. فهل يتوقع بركة أن يصدق المواطن أن هذه المرة ستكون مختلفة؟

 

 

إن المواطن الذي يتوجه كل خمس سنوات للإدلاء بصوته، ثم يكتشف بعدها أن لا شيء يتغير، فمن الطبيعي أن يفقد الأمل في العملية السياسية برمتها، وحينما يرى أن نفس الأحزاب التي تعِد بالإصلاح هي نفسها التي تدير الحكومة، ثم تعود بعد ذلك لتنتقد السياسات التي كانت شريكة في وضعها، فمن الطبيعي أن يشعر باليأس من هذه الممارسات السياسية التي تتكرر مع تغيير بسيط في الممثلين.

 

من الواضح أن بركة، مثله مثل باقي السياسيين المغاربة، يعرف أن نسبة المشاركة ستكون متدنية، لكنه يحاول التغطية على هذا الواقع عبر خطاب تحذيري يخفي وراءه قلقا أكبر: ماذا لو اتسعت الهوة بين المواطن والسياسة إلى الحد الذي تصبح فيه الانتخابات مجرد طقس بلا معنى؟ ماذا لو فقدت الممارسة السياسية آخر عناصر قوتها، وبات العزوف الانتخابي هو القاعدة وليس الاستثناء؟

 

لكن ما لا يريد بركة قوله صراحة هو أن الأزمة ليست أزمة عزوف انتخابي فقط، بل هي أزمة شرعية سياسية كاملة. والفرق كبير بين الظاهرتين، لأن الأولى يمكن معالجتها عبر حملات تحسيسية ودعوات للمشاركة، أما الثانية فهي تحتاج إلى إعادة بناء جذرية للثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وهو أمر يتجاوز مجرد تغيير الشعارات والوجوه.

 

بصراحة، لا شيء يُشير إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون مختلفة عن سابقاتها. فالأحزاب ما زالت غارقة في نفس الحسابات الضيقة وبذات الخطاب، والحكومة الحالية تبدو عاجزة أو غير مهتمة بتقديم أي حلول واقعية لمشاكل المغاربة، والمعارضة -إن وُجدت- ليست سوى امتداد لنفس النخبة السياسية التي تداولت على التدبير منذ عقود.

 

 

لكن ما لا ولم يدركه نزار بركة وأمثاله هو أن المغرب لم يعد كما كان قبل عشرين عاما. فالجيل الجديد من المغاربة لم يعد يستهلك الخطابات السياسية بنفس الطريقة، ولم يعد يرى في الانتخابات أداة للتغيير، بل صار مقتنعا أن الحلول الحقيقية لا تأتي من صناديق الاقتراع، بل من خارجها. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي يخشاها السياسيون، لأنها تعني أن اللعبة التي احترفوها لعقود غير آبهين بالإرادة الشعبية، قد تفقد أهم عنصر فيها: الجمهور الذي يصدقها.

 

 

وإذا كان نزار بركة، ومعه باقي الفاعلين السياسيين، جادين في مواجهة العزوف الانتخابي، فإن الحل لن يكون في خطابات الاستجداء ولا في تحميل المواطن مسؤولية فقدانه الثقة في العملية السياسية. بل عليهم أن يطرحوا على أنفسهم سؤالا أكثر جوهرية: كيف يمكن إقناع مواطن أنه شريك في صناعة القرار، بينما يرى أن المؤسسات لا تعبر عن همومه، وأن الانتخابات ليست سوى محطة عابرة لإعادة إنتاج نفس الأوضاع؟

 

 

إن العزوف عن المشاركة في الانتخابات ليس أزمة وعي سياسي لدى المواطن، بل هو في عمقه أزمة مشروعية لدى الأحزاب والمؤسسات المنتخبة، واستعادة الثقة لا تأتي عبر حملات إعلامية مدفوعة ولا عبر تجميل الصورة بوعود موسمية، بل تتطلب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح قواعد اللعبة السياسية، بحيث لا تكون الانتخابات مجرد طقس شكلي، بل وسيلة فعلية لتغيير السياسات والتوجهات.

 

 

لذلك، فإن الرهان اليوم ليس على نسبة المشاركة بقدر ما هو على إعادة الاعتبار للسياسة كمجال لخدمة الصالح العام، وليس كوسيلة لإعادة تدوير ذات النخب التي أكل عليها الدهر وشرب ونام.

 

 

وإلى أن يحدث هذا التحول، سيظل العزوف الانتخابي مجرد انعكاس لحقيقة أكبر: أزمة تمثيلية لم تعد تعالج بالمساحيق، بل تحتاج إلى جراحة سياسية عميقة لا يبدو أن أحدا مستعد لإجرائها.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً