نور الدين مفتاح يكتب: سماسرة المعرفة
لقد عشت شخصيا مرحلة عجيبة في هذا الإصلاح المتجنّى عليه، عندما كان الطيب الشكيلي وزيرا للتربية والتعليم في 1989-90 تقريبا، وتقرر أن يتم تعريب المواد العلمية في المدرسة وفرنستها في الجامعة، في ما كنا قد أسميناه حينها بـ«العرنسية». وقد جاء هذا سنوات على الإصلاح الذي قاده الاستقلالي عز الدين العراقي بتعريب التعليم.
أنا ابن المدرسة العمومية المغربية، وأعترف بفضلها عليّ. والمسألة بالنسبة لواحد من أبناء الأسر الفقيرة لم تكن في التكوين والتربية فقط، بل كانت المدرسة هي الباب الوحيد لإيجاد مكان في المجتمع يحفظ الحد الأدنى من الكرامة وهو ما يسمونه «الترقي الاجتماعي».
وأفهم اليوم أكثر من أي وقت مضى وضعية مئات الآلاف من الشبان والشابات الذين هدّهم الخصاص، ويقاتلون على أكثر من جبهة لينقذوا أنفسهم وأسرهم من الفقر الأسود، بالتفاني في الدراسة وأحيانا الاشتغال بالتوازي في أعمال هامشية لتوفير ميزانية بسيطة كمصاريف يوميّة.
كل هؤلاء هم ضحايا سياسات متراكمة لمدة عقود، وضحايا فشل معلن في أكبر الملفات المتعلقة بالإنسان. ولذلك، ومع استمرار الحال على ما هو عليه مع بعض الانحدارات، فإن هؤلاء المغاربة من أبناء الشعب لا تكفيهم فقط المثابرة والاجتهاد والعمل المضني، بل يجب أن يتوفر لهم الحظ أيضا، وألا يصادفوا في طريقهم سماسرة الحياة وتجار الآلام.
نعم المدرسة العمومية لحد الآن قائمة، وتكلف ما يناهز 10 ملايير دولار (10000 مليار سنتيم) سنويا، ويقوم عليها أساتذة يشكلون أكثر من 40٪ من مجموع الموظفين المدنيين في المملكة. ورغم كل هذه الجهود، تبقى النتيجة بإجماع الكل أن هذه المدرسة من الابتدائي إلى الجامعي مأزومة. بل إن النتائج كارثية سواء تعلق الأمر بالمستوى العام المخجل للتلاميذ والطلبة، أو بربط هذه المدرسة بمحيطها والجامعة بسوق الشغل. إصلاح وراء إصلاح، ولكن الأمر ظل يشبه في النهاية مرضا لم ينفع معه دواء.
لقد عشت شخصيا مرحلة عجيبة في هذا الإصلاح المتجنّى عليه، عندما كان الطيب الشكيلي وزيرا للتربية والتعليم في 1989-90 تقريبا، وتقرر أن يتم تعريب المواد العلمية في المدرسة وفرنستها في الجامعة، في ما كنا قد أسميناه حينها بـ«العرنسية». وقد جاء هذا سنوات على الإصلاح الذي قاده الاستقلالي عز الدين العراقي بتعريب التعليم.
مرّت سنوات تجارب الفئران هاته والمستوى التعليمي يتدحرج أمام أعين الجميع، إلى أن أطال الله العمر وعشت أيضا مع نهاية حكومة سعد الدين العثماني العودة إلى تدريس المواد العلمية بالفرنسية في المدرسة، دون أن يكون هناك أساتذة مستعدون ولا مؤهلون لذلك وإليكم النتيجة:
المغرب يحتل المرتبة 71 في الرياضيات ضمن 81 دولة، والمرتبة 79 في القراءة والمرتبة 76 في العلوم، حسب تقرير PISA الدولي لتقييم الطلاب.
«إن هذه النتائج قد تؤثر على فرص الطلاب في سوق العمل والتقدم الاجتماعي» يقول التقرير. بمعنى أن أحد المنافذ القليلة للنجاة من الفاقة و «القهرة» في البلاد هو اليوم مفرّخ لمنتوج فاشل يعزز قناة إمداد جيوش البطالة، التي لم يسبق أن وصلت في تاريخ المغرب إلى المستوى الحالي حسب المندوبية السامية للتخطيط.
آلاف المغاربة المتوسطين أيضا يقتطعون من لحمهم ما يسجلون به أبناءهم في المدارس الخاصة هروبا من التعليم العمومي، وهذا عار! خصوصا أنهم مضطرون للدفع مرتين أي أداء الضريبة وأداء مصاريف التمدرس، والمشكلة أنه باستثناء بضع مدارس محسوبة على رؤوس الأصابع ولا يمكن الولوج إليها إلا من طرف فاحشي الثراء، فإن فيروس التقهقر دخل إليها من نافذة التجارة و «اللهطة» اللهم إلا من رحم ربي.
كل أعطاب هذه المدرسة تصل إلى الجامعة المغربية التي شكلت اليوم الحدث، ليس بمنجز علمي أو بحثي مبهر، ولكن بقضية فساد هزتها هزا، وكان محورها أستاذ يبقى لحد الآن مشتبها به يدعى أحمد قيلش هو اليوم بيد قاضي التحقيق بتهم بيع ديبلومات الماستر في جامعة أكادير، وهذه القضية جعلتنا نتذكر قضية الجرح القديم الذي فتح في جامعة سطات في ما عرف بـ«النقاط مقابل الجنس» والعنوان يختصر كل شيء.
التعميم آفة وهو منهج المتحاملين أو الجاهلين، ولكن تجاهل الفساد الذي ينخر هذا القطاع هو تماما كتجاهل السرطان، بل إن البعض انتفض ضد التنبيه لأوضاع الجامعة واعتبر ذلك «وقاحة» وعدم اعتراف بمجهودات الأساتذة والدكاترة الذين لهم الفضل على كل إطار من أطر البلاد في القطاعين الخاص والعام، فهل المطلوب هو التستر أو بناء قبة خضراء فوق كل جامعة والتخشع في محرابها لنكون مرضيي أساتذتنا الأجلاء وغير ناكرين للجميل!
قيلش ينطبق عليه قوله تعالى: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ولكن هذا القيلش هو عنوان للفساد الذي يضرب جزءا من الجامعة المغربية، وأنا هنا لا أتحدث عن المستوى الكارثي للكفاءات وللبحث ولهذه الدكتورات التي أصبحت أخف من الريشة، اللهم إلا من رحم ربي مرة أخرى، ولكن، أتحدث عن البيع والشراء والمحسوبية والتخويف، والممارسات التي لم يعد ينكرها إلا منتفع أو شاهد زور.
الجامعة كانت مشتل النخب، وكانت في قلب الحياة الثقافية والسياسية لمغرب السنوات المشتعلة من الاستقلال إلى الثمانينات. هذه الجامعة اليوم هي ضحية سياسات عمومية رسخت التمكين للتفاهة حتى يكاد ينطفئ كل شيء. فكيف يعقل أن أحسن كتاب في المغرب لا تتجاوز مبيعاته 500 نسخة! والصحف مجتمعة 15 ألف نسخة في اليوم، والبحوث المنشورة تكاد تقارب الصفر!
فماذا يقرأ الأساتذة والطلبة بما أن حتى الصحف والكتب الأجنبية تعرف نفس المآل؟ هل مازال هناك عرق ينبض معرفة في الجامعة؟ اللهم بعض الزهاد من أساتذة وأطر أعياهم ما يقفون عليه مشدوهين وتراهم منزوين لا حول لهم ولا قوة أمام سطوة لوبي الفساد.
لنستمع إلى هذه الشهادة للأستاذ محمد الشرقاوي، وهو مغربي يدرس مادة الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسون في واشنطن وقد نشرها بـ «العربي 21» في 2019 أي 6 سنوات قبل فضيحة بيع شهادات الماستر:
«الجامعة المغربية ينخرها الفساد على أيدي سماسرة المعرفة ومن يتاجرون في قبول الطلاب الجدد في الماستر مقابل 20 ألف درهم، أو الدكتوراه بسعر 40 ألف درهم، حسب ميزان العرض والطلب. هناك سوق رائجة لأبحاث الإجازة والماجستير وأطروحات الدكتوراه في السوق السوداء تحت الطلب، كل حسب سعره».
وحتى لا نختم بالمتشائمين، لجأنا إلى المدبرين وعلى رأسهم وزير التعليم العالي الحالي السيد عز الدين أحمد الميداوي عله يفتح فسحة الأمل فوجدناه يقول بمجلس النواب:
«في الجامعة هناك إشكاليات بنيوية تتعلق بالهدر الجامعي وضعف نسب التخرج والتعثر في ولوج سوق الشغل، وهياكل جامعية متجاوزة وغياب نظام معلوماتي والاكتظاظ وضعف المردودية وضعف المهارات اللغوية»، والقول ما يقوله الوزير والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.