سوسيولوجيا “التفاهة السياسية”: عبد الإله بنكيران مُولِّدا لرمزيةٍ لغويةٍ حيوانية
يحي الصغيري
أستاذ علم الاجتماع السياسي
تمهيد: من نقد السياسات إلى بلاغة العداوة
لم يعد الانزياح من نقد البرامج إلى تعيير الأشخاص حادثًا عابرًا في الحقل السياسي المغربي، بل تحوّل إلى نظام تواصل يعيد تشكيل الحوافز وذائقة الجمهور. في هذا النظام، تبرز خرجات عبد الإله بنكيران بما راكمته من معجم يقفز من “التماسيح” إلى “الحمار” و”الكلاب” و”الميكروب” وصولًا إلى نعت “حماقة”. لا تعمل هذه الألفاظ كزلاتٍ منفصلة، بل كبنية لغوية تعيد تعريف العلاقة بين الفاعلين السياسيين والجمهور داخل قاموسٍ بيولوجي–حيواني يقصي الندية ويضعف إمكان التفاهم.
قاموس نزع الإنسانية: كيف تُستبدل الحجة بالإهانة؟
تشتغل الاستعارة الحيوانية بوصفها تقنية لإسقاط أهلية المخالف للمشاركة على قدم المساواة. «التماسيح» تُشيّئ الخصوم وتغلفهم بالغموض المؤامراتي الذي يعفي من البرهنة؛ “الحمار”يسحب الكرامة المعرفية؛ «الكلاب» تقوّض المساواة الاعترافية؛ و”الميكروب” أخطر لأنها تستدعي بلاغة “التطهير” وتوحي بضرورة التعقيم والاستئصال. ومع تعميم نعت «حماقة» يتوسّع مدى الإهانة من أشخاص بعينهم إلى فضاءات أوسع، بما يشرعن الانفعال ويُسكت الحجاج.
ديناميات المنصّة والإعلام: حين تكسب “اللقطة” على حساب المعنى
لا تنتشر هذه اللغة بمعزل عن بيئتها. فالمنصّات الرقمية تعيد تقطيع الخطاب إلى لقطات عالية الاستثارة، وتُكافئ ما يُنتج غضبًا واستهجانًا على ما يقدّم تفسيرًا وبديلًا. يسير الإعلام في ركاب هذا الإيقاع، فيعيد تدوير المفردات القدحية خارج سياقها ويفتح شهية الفاعلين على مزيدٍ من التصعيد، ما دام العائد سريعًا والكلفة المؤسسية ضئيلة.
هشاشة الضبط المؤسسي: فجوة النص والتفعيل
توجد نصوصٌ ناظمة للحياة البرلمانية ومدونات للسلوك والأخلاقيات، غير أنّ مرونة التأويل وتذبذب التفعيل يصنعان “منطقة رمادية” تُستغل لغويًا. يتقلّص أثر الردع حين تغيب الشفافية في التعليل وحين لا تُنشر تقارير دورية عن المخالفات والعقوبات، فينشأ اقتصاد سياسي للإهانة: مكافأة منصّاتية موجبة مقابل كلفة مؤسسية سالبة.
التسريب إلى الداخل: من إدارة الخلاف إلى إدارة الولاء
عندما يُستدعى المعجم القدحي داخل التنظيم، يتآكل الرأسمال الثقافي والتنظيمي للحزب نفسه. تضعف الثقة الأفقية، وترتفع كلفة إدارة الاختلاف، وتتحوّل اللغة من أداة تعبئة واعية إلى تقنية لفرز “نحن/هم” داخل البيت الواحد، فتُستبدل مناقشة البرامج بتثبيت الولاءات على إيقاع القدح.
الأثر الاجتماعي–السياسي: اشمئزاز وعزوف وتآكل الشرعية
إزاء هذا المشهد، لا يرى المواطن في السياسة وسيلة إدارة عمومية للخلاف، بل مسرحًا للتهكم وتبادل النعوت. يتراكم الاشمئزاز، ويتسرّب العزوف إلى القواعد الناخبة، وتتضرّر قابلية التمثيل والهيبة، وتتآكل الشرعية التداولية للمؤسسات. يتحوّل النجاح من الإقناع القابل للاختبار إلى انتزاع ضحكةٍ صاخبة أو لقطةٍ قابلة للتدوير.
نحو إعادة هندسة الحوافز: لغة القوة هي قوة الحجة
لا يعني نقد هذا القاموس التضييق على حرية التعبير أو إنكار تقاليد الهجاء السياسي، بل يعني رسم خط فاصل بين السجال الديمقراطي المنتج الذي يقسو على الأفكار ويغلّظ الحجة، وبين خطابٍ يسقط الأساس الاعترافي ويشيّئ الخصوم. المطلوب إعادة تعريف “القوة” بوصفها قدرة على بناء حجة قابلة للمساءلة العامة، لا مهارة في إطلاق النعوت.
خاتمة: من صناعة الأعداء إلى إدارة الاختلاف
تُظهر حالة بنكيران كيف يُعاد برمجة السياسة حين تُقدَّم الإهانة على الحجة: تُكافأ التفاهة وتُهمَّش المعنى. الخروج من هذا المسار يمر بإعادة هندسة الحوافز، ومواءمة النصوص مع التطبيق، وتغليب منطق البرهان على لعبة “اللقطة”. عندها فقط يمكن استعادة السياسة فنًّا لإدارة الاختلاف لا صناعة الأعداء.
Terroriste