الصغيري يكتب: ضد شخصنةِ الأزمة.. من الشارع إلى لوائح الاقتراع
1. يقظةُ “جيل Z” ونقدُ اختزالِ الأزمة
في هذا البلد الذي تعلّم المشي بين حوافّ الأمل والخيبة، ينهض جيلٌ كامل إلى الساحات كما لو أنه يضع يده على قلب الدولة ليتأكد من النبض. شباب “جيل Z” لا يخرجون اليوم ليضيفوا صخبًا إلى الضوضاء، بل ليضعوا إصبعًا على جرحٍ قديمٍ يتسرّب من بين الضمادات. يقظةٌ تستحق الفرح. وللأمانة السياسية، للحكومة إيجابياتٌ كما لها سلبياتٌ؛ ولم تتسلّم الدفّة في فراغٍ ولا على بحرٍ هادئ، بل فوق إرثٍ ثقيلٍ وفي قلبِ أزمةٍ متعدّدة الأبعاد—غذاءٍ وطاقةٍ واقتصاد—وضعٌ مأزومٌ بكلّ المقاييس أصاب كلَّ بيتٍ ومحفظة.
مع ذلك، يتجاور هذا التعقيد مع نزوعٍ متزايد إلى تبسيطه في وجهٍ واحد: فحين نُحوِّلُ شبكةً معقّدةً من الأعطاب إلى شخصٍ بعينه ونعلّق الفشل على اسمٍ واحد، نهبط بالسياسة من هندسةٍ تُقاس وتُحاسَب إلى مرآةِ شخصٍ واحد. لذلك لا ندافع عن حكومةٍ ولا نُدينها جملةً، بل نعيد البوصلة من الشخص إلى البنية، ومن الغضب إلى الفعل المؤسّسي حيث تُفكَّك الأزمات ببرامج ومؤشّرات، لا بصورٍ وأمزجة.
2. سِحرُ الشخصنة وثمنُها الباهظ
الشخصنة سهلةٌ وجذّابة؛ تمنح الجمهور “وجهًا” يُلام، وتعد بحلولٍ سريعة. غير أنّ ثمنها باهظ: تعمي البُنى فتضيع خلف الضوء أسئلةُ السياسات العمومية، وسلاسل القرار، ودوائر الإنفاق، ومحدّدات اللامساواة المجالية. تُعطّل المحاسبة العقلانية، فننتقل من تقييم برنامجٍ بأرقامه إلى محاكمة “نوايا” فردٍ أو مزاجه. تُنعش تجارة الأزمات، فيركب اللحظةَ من لا برنامج له سوى تثبيت الاستقطاب، ويحوّل الغضبَ من طاقةٍ للتغيير إلى وقودٍ لدوّامةٍ بلا مخارج. وحين يصبح تغيير “الشخص” غايةً بذاتها، تُؤجَّل السياسات إلى أجلٍ غير مسمّى، وتعود الدائرة إلى بدايتها باسمٍ جديدٍ وصورةٍ أخرى.
3. أخلاقُ الاحتجاج وشرعيّةُ الصندوق
الاحتجاج، في المقابل، فعلٌ أخلاقيٌّ نبيل يعيد السياسة إلى أصلها: أن تُداوي الدولة وتُعلّم وتحمي. لكن الشارع، مهما اشتدّ صوته، ليس هيئة تعيينٍ للحكومات ولا آلية تداولٍ للسلطة. في النظام الدستوري، الممرّ الشرعي للتفويض والعقاب هو صندوق الاقتراع. الفصل بين حرارة الشارع وبرودة المؤسّسة ليس انتقاصًا من الأوّل، بل ضمانةٌ كي لا تبقى الأخلاق صرخةً يتيمة، وكي لا يتحوّل القانون قوقعةً صمّاء. لنقلها بلا مواربة: لا يمكن أن يكون الشارع هو من يعيّن رئيس الحكومة أو يبدّله.
الثورة الممكنة اليوم هي ثورة صناديق الاقتراع—انتخاباتٌ حرةٌ ونزيهة تديرها لجنةٌ محايدة، تُترجم الغضبَ إلى قرارٍ مُلزِم، وتجعل من الصوت عقابًا راشدًا لا انتقامًا أعمى. دستور 2011 وضع مفاتيح التغيير بيد المواطنين: اختيار رئيس الحكومة عبر صناديقهم، وتجديد النخب عبر تفويضٍ مراقَب. فإذا أردنا قطع الطريق على «مول الشكارة» وأطياف النفوذ الموروث، فليس أمامنا إلا تكثيف المشاركة، لأنّ الصوت المتروك للغياب يُستدرج بالمال والزبونية، بينما الصوت الحاضر يرفع كلفة شراء الولاءات ويهزم الأساطير بالأرقام.
4. خارطةُ الفعل ورسالةٌ إلى الدولة
ما العملُ كي لا تنطفئ هذه الصحوةُ عند أوّل خيبةٍ أو أوّل مزايدة؟ نجعلُ التسجيلَ في اللوائح الانتخابية معركةً مركزية، تُديرها لجانٌ شبابيةٌ يقظة، وتعضدها منصّاتٌ رقميةٌ شفّافة، وتساندها وحداتٌ متنقّلة في الأحياء والقرى. نُعلنُ أهدافا واضحة قابلةً للقياس، ترفع نسبة تسجيل الشباب إلى مستوى يغيّر خرائط النتائج لا عناوين الأخبار. ونصون السلميّة بوصفها أصلَ الشرعيّة وروحَ الإصلاح: فكلّما ابتعدت الحركةُ عن العنف اقتربت من الصندوق، والسلميّة ليست خُلقا فحسب، بل استراتيجيةُ نصرٍ مؤسّسي تُحوِّل الزخمَ الأخلاقيَّ إلى قرارٍ مُلزِم.
نعم، نحنُ نفرح بهذه اليقظة؛ فهي تعيد للسياسة نبرتها الأولى: أن نخجل من الألم العام وأن نستعجل البرهان. ونعم، نحزنُ لأنّ الخطابَ العام يلوذ بالشخصنة كلّما تعقّدت خرائطُ الإصلاح. غير أنّ بين الفرح والحزن طريقًا ثالثًا اسمه الفعل: نُسجّل، نقرأ، نُحاسِب، ونُغيِّر. هناك، في الخلوة مع ورقةٍ شفّافةٍ وصندوقٍ صامت، تنقلب القصيدةُ قانونًا، ويصير الحزنُ وقودًا لعدالةٍ تُرى… لا نشيدًا يُردَّد.
خاتمة
نفرحُ بيقظة “جيل Z” لأنّها لا تكتفي بوصف الألم بل تقترح طريق الشفاء: تسجيلٌ واسع، قراءةٌ واعية، ومحاسبةٌ منتظمة تُحوِّل الغضب إلى طاقة بناء. ونُحاسِبُ بميزانٍ مزدوج: نُقرُّ بإنجاز يُرى وننتقد خللًا يُقاس، ونتذكر أنّ هذه الحكومة واجهت وضعًا مأزومًا متعدد الأوجه -غذاء وطاقة واقتصادا- وتسلّمت إرثا ثقيلا لا يُعفيها من المسؤولية.
فما إن نختزلَ شبكة الأعطاب في وجهٍ واحدٍ ونعلّق الفشل على اسمٍ بعينه، حتى تتحوّل السياسة من منظومةٍ تُقاس وتُحاسَب إلى مرآةِ شخصٍ واحد. لذلك فلنجعل من الاستحقاق القادم موعدًا لتصحيح الاتجاه: نُسجّل كي لا يُتَّخذ القرار باسمنا، نقرأ كي لا تخدعنا الشعارات، ونُحاسب كي تستقيم البوصلة. هناك، في خلوة ورقةٍ شفّافةٍ وصندوقٍ صامت، تتحوّل القصيدةُ قانونًا يمشي على قدمين.