نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية

إن التخندق الإيديولوجي غالبا ما يقود إلى نتائج تحليل خاطئة، فإيران أو نظامها ليست لا شيطانا ولا ملاكا، إنها قوة إقليمية حتى قبل أن يأتي الخميني إلى السلطة في ثورة 1979، والشاه كان يصارع من أجل قومية فارسية مهيمنة في الخليج. وقد تغيرت هذه النزعة دون أن يتغير الإحساس بأحقية الريادة في المنطقة بعد التحول من القومية الفارسية إلى الأممية الإسلامية. وما يعرف بنظام الملالي لم يكن ساذجا، بل ظل يلعب بشكل جيد وبراغماتي بحيث إن مكاسبه اليوم كانت أكبر من مكاسب كل منافسيه العرب، فقد طور برنامجا نوويا وصلت فيه نسبة التخصيب إلى 60٪ علما أن المطلوب في قنبلة نووية هو تخصيب يصل إلى 90٪، ويقول الخبراء إن طهران قادرة على الوصول إلى هذه النسبة بسهولة. كما أن إيران تجنبت أخطاء العراق وسوريا اللتين كانت لديهما مراكز نووية على سطح الأرض وتم ضربها من طرف إسرائيل، وهي اليوم تتوفر على مراكز نووية تحت الجبال بعمق 80 مترا، مما يجعل من المستحيل على أي قنابل إسرائيلية أن تخترقها.

نور الدين مفتاح [email protected]

 

 

تماما كما جرى في 7 أكتوبر من السنة الماضية في «طوفان الأقصى»، تبدو إسرائيل اليوم مع الهجوم الصاروخي الإيراني دولة معتدى عليها ومهددة بالزوال ويترقب الجميع رد فعلها العسكري، دون أن يذكر أحد أن «طوفان الأقصى» أصلا هو رد فعل على الاحتلال عموما، وعلى ما كان يقوم به الوزيران «الإرهابيان» في حكومة نتنياهو، سموتريتش وبن غفير، في الضفة الغربية من تقتيل وتهويد للقدس وإطلاق العنان للاستيطان. ودون أن يتذكر أحد في نازلة إيران أن نتنياهو أمر بضرب قنصلية طهران بسوريا بداية الشهر الجاري، وهي تراب إيراني، وقتل ضباط من الحرس الثوري على رأسهم العميد محمد رضا زاهدي، كما سبق أن فعلت الموساد عندما اغتالت مهندسي التطوير النووي الإيراني، وكذا الجينرال رضى موسوي والعديد من كبار القادة والعلماء.

 

إن الجديد اليوم هو أن طهران قررت أن تقطع ما يسمى بـ«الصبر الاستراتيجي»، وأن لا توكل إلى أحد من وكلائها مهمة الرد، ولكنها بادرت لأول مرّة منذ نصف قرن إلى ضرب إسرائيل مباشرة، وهذا كان هزّة عالمية مفهومة، وتحولا كبيرا في شرق أوسط مربوط ببراميل البارود.

 

 

إنه لمن السذاجة الاستهزاء بحجم الرد الإيراني وشكله وترتيبه. فمجرد توجيه صواريخ من طهران إلى إسرائيل هو شيء جلل، وهو ما وعته العواصم الغربية جلها، وما يؤرق العالم وهو يترقب رداً إسرائيليا قد يشعل المنطقة لتلفح ألسنة نيرانها الجميع! لقد حاولت طهران عن طريق إخبار الغرب بضرباتها، والتحكم في هذه الضربات لئلا توقع خسائر ضمن المدنيين، أن تمسح عن نفسها عار عدم الرد على ضرب قنصليتها في سوريا وفي نفس الوقت ألا تشعل حربا تعرف أن الجميع سيكون متضررا منها. ويبدو أنها لحد الآن نجحت في ذلك، لأن الرئيس الأمريكي جو بايدن يقف ضد رد عسكري إسرائيلي ما دام أن تل أبيب قد حققت في نظره «نصرا دفاعيا» بالتصدي لـ 99٪ من المسيرات والصواريخ الإيرانية. ونفس الشيء يقوله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون.

 

داخل إسرائيل نفسها، وخارج التيار المتطرف، هناك من يعتبر أن مجرد خلق حلف عملي انخرط في التصدي للهجوم على إسرائيل فعليا، ويتكون من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هو مكسب يفوق رداً انتقاميا إسرائيليا سيكون من نتائجه تشتيت هذا الحلف. وقد سمعت أحد الأصوات من داخل إسرائيل تقول إن تل أبيب اليوم عليها: «أن تبرز ذكاءها وليس عضلاتها»، ولكن يبقى كل هذا رهينا بأصحاب القرار الفعلي في مجلس الحرب بقيادة نتنياهو.

 

لكل هذا، يبدو أن طهران بعثرت أوراق العجرفة الإسرائيلية، وإذا كانت المقاومة في «طوفان الأقصى» قد كسرت إلى الأبد صورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، فإن إيران اليوم زادت خطوة في مجال المحظور التاريخي، وعمقت صورة هذه الإسرائيل العاجزة التي بدا أنها تحتاج لتحالف غربي على الأرض لتستطيع الصمود. وهذه الصورة عموما لن يغيّرها أي رد مهما كان، مع العلم أن تل أبيب مطوقة بمنسوب ردّ يوافق حلفاءها ويتوافق مع تجنب إشعال حرب في المنطقة تلتهم الأخضر واليابس.

 

 

إن التخندق الإيديولوجي غالبا ما يقود إلى نتائج تحليل خاطئة، فإيران أو نظامها ليست لا شيطانا ولا ملاكا، إنها قوة إقليمية حتى قبل أن يأتي الخميني إلى السلطة في ثورة 1979، والشاه كان يصارع من أجل قومية فارسية مهيمنة في الخليج. وقد تغيرت هذه النزعة دون أن يتغير الإحساس بأحقية الريادة في المنطقة بعد التحول من القومية الفارسية إلى الأممية الإسلامية. وما يعرف بنظام الملالي لم يكن ساذجا، بل ظل يلعب بشكل جيد وبراغماتي بحيث إن مكاسبه اليوم كانت أكبر من مكاسب كل منافسيه العرب، فقد طور برنامجا نوويا وصلت فيه نسبة التخصيب إلى 60٪ علما أن المطلوب في قنبلة نووية هو تخصيب يصل إلى 90٪، ويقول الخبراء إن طهران قادرة على الوصول إلى هذه النسبة بسهولة. كما أن إيران تجنبت أخطاء العراق وسوريا اللتين كانت لديهما مراكز نووية على سطح الأرض وتم ضربها من طرف إسرائيل، وهي اليوم تتوفر على مراكز نووية تحت الجبال بعمق 80 مترا، مما يجعل من المستحيل على أي قنابل إسرائيلية أن تخترقها.

 

قوة الردع هذه، زائد تحالفها مع روسيا والصين، وكذا استفادتها من الهزائم الأمريكية في حروب الشرق الأوسط، جعلتها تتمدد في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وها هي اليوم تتحكم في أهم الممرات البحرية العالمية في باب المندب بوكالة حوثية، ومضيق هرمز بإشراف مباشر، مما يهدد بأزمة نفط عالمية في حالة هجوم إسرائيلي هائج.
إيران هذه تعرف إسرائيل جيدا وإسرائيل تعرفها كذلك عكس ما يعتقد الكثيرون، فتاريخ اليهود والإيرانيين مرتبط منذ العصور البابلية، وتعتبر منطقة همدان مركزا معتبرا لليهود الإيرانيين، بحيث إنها مدفن الملكة أستير زوجة الملك كسركسيس التي أنقذت الشعب اليهودي من الاضطهاد في القرن 5 قبل الميلاد. ولا غرابة أن تكون في إيران الشيعية المنعوتة بالحكم الأتوقراطي أكبر جالية يهودية في الشرق الأوسط خارج إسرائيل.

 

وفي إسرائيل يمكن أن نحصي 200 ألف مواطن من أصل إيراني، بعضهم وصل إلى مراكز قيادية مثل الرئيس الإسرائيلي الأسبق موشي كاتساف، وشاؤول موفاز نائب رئيس الوزراء الأسبق، اللذين ولدا في إيران. وكل هذا يبين أن حدّة الخطاب الإيراني اتجاه إسرائيل بالدعوة لمحوها من الخريطة هي جزء من سياسة إيرانية اختارت ـ خلال نصف قرن ـ التطرف في الأقوال اتجاه المحتل الصهيوني والاعتدال في الأفعال، لدرجة أن تعاملات بين الطرفين حدثت بناء على تقاطعات في المواقف لم تكن متاحة للرأي العام.

 

ويكشف الباحث الأمريكي السويدي من أصل إيراني تريتا بارسي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكينز، ورئيس المجلس القومي الإيراني الأمريكي في كتابه: «التحالف الغادر.. المعاملات السرية بين إسرائيل وإيران وأمريكا»، أن إيران خلال حربها مع عراق صدام حسين: «اشترت من إسرائيل أسلحة بقيمة فاقت 500 مليون دولار في الفترة الممتدة من 1980 إلى 1983 استنادا إلى معهد يافي للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب، سدد معظم هذا المبلغ عبر تسليم شحنات من النفط الإيراني». وفي تحليله لهذا المعطى يقول بارسي إنه: «لم يكن بمقدور إيران صد الجيش العراقي الغازي دون توسيع قنواتها مع إسرائيل وواشنطن من أجل شراء الأسلحة وقطع الغيار… صار مفهوم المصلحة القومية يفرض هيمنته فبدأت الأصوات تتعالى لفتح قنوات مع أمريكا واستخدام وسطاء إسرائيليين إن لزم الأمر، لكن مع الحفاظ على سرية الاتصالات معهم لتفادي تقويض مصداقية إيران الإيديولوجية».
ويخلص تريتا إلى أنه: «بدلا من البحث عن التوازن مع العرب بالتحالف مع إسرائيل أو السعي لتسوية معهم وتولي دور ريادي في مواجهة دولة اليهود اختارت طهران القيام بالأمرين معا، عبر التمييز بين سياستها العملية وخطابها العلني. فمن جهة تعاونت سرّا مع إسرائيل في المسائل الأمنية، ومن جهة أخرى رفعت حدة خطابها المعادي لإسرائيل إلى مستويات أعلى بكثير للتغطية على تعاملاتها معها».

 

بغض النظر عن صدقية حجم هذه الوشائج السرية الإيرانية ـ الإسرائيلية، إلا أن الملموس الواضح هو أن إيران جنحت دوما للتعامل مع الغرب، والتصالح معه، وفك العزلة الدولية عنها. وقد حصل ذلك على عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما حين تم التوقيع على الاتفاق النووي بانخراط الاتحاد الأوربي قبل أن يمزقه ترامب بشكل أهوج. بل إن إيران لم تكن ضد اتفاقيات السلام الموقعة مع الراحل ياسر عرفات في بداية التسعينيات، ولكنها كانت ضد إقصائها من حضور مؤتمر مدريد وهو ما جعلها حينها في خط متوافق مع نتنياهو الذي كان ضد اتفاقات أوسلو. يقول تريتا في نفس الكتاب: «إن نتنياهو ذهب بعيدا عندما سعى إلى التوصل إلى تفاهم مع طهران بمساعدة اليهود الإيرانيين البارزين، ونظم لقاءات مع ممثلين من البلدين».

 

هذه هي حقيقة إيران التي تلعب في الرقعة الدولية بشكل مغاير لما يروجه بعض العرب من كونها مجرد عمائم شيطانية طائشة. والواقع أن هؤلاء العرب المعنيين أصلا بالقضية المحورية في المواجهة مع إسرائيل وهي القضية الفلسطينية خرجوا من اللعبة بأسوأ النتائج. ولا غرو إذا كان الإيرانيون والإسرائيليون يتفقون على اعتبار العرب «أدنى مستوى منهم من الناحية الثقافية، وهم محظوظون جداً لكونهم يملكون جيرانا بإمكانهم أن يساهموا في تحضرهم وتهذيبهم» يقول تريتا في نفس الكتاب.

 

مؤلمة هذه الملاحظة، ومؤلم هذا الواقع الذي لا نجد فيه غالبية العرب إلا لعَّـانِـين متفرجين وأحيانا متواطئين، في حين أن التاريخ يكتب في الشرق الأوسط بمداد غيرهم، وهم يسخرون بسبب الجهل والخوف، امتثالا لقول المتنبي: «يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»!

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق


إقرأ أيضاً